تصميم تركيا على فتح كل ملفات التباين مع الإدارة الأمريكية سيؤدي إلى مزيد من الأزمات بما فيها موضوع دعم واشنطن وحدات الشعب الكردية.
ماذا يجري في مسارات أزمة العلاقات التركية الأمريكية الراهنة، خاصة أنها دخلت مرحلة جديدة من التأزم تتجاوز الخلافات الثنائية التي تعايش معها الجانبان بعض الوقت، وبصرف النظر عن طبيعة الخلافات الاقتصادية وبعض التجاذبات الإقليمية وأهمها الخاصة بسوريا.
أولا: يمكن تفهم بعض الخلافات الثنائية في سياق قرار الإدارة الأمريكية بمضاعفة التعريفات الجمركية على الصلب والألومنيوم، وهو ما أدى إلى مزيد من المشكلات للاقتصاد التركي المتعثر بالفعل، ودفع تركيا للبحث في البدائل الاستراتيجية، وتحديدا الاتجاه التركي إزاء روسيا، رغم أن البلدين ما زالا مرتبطين بتوافقات استراتيجية متعددة؛ أهمها وجود التحالف الاستراتيجي الذي لا يقتصر على القاعدة العسكرية "إنجرليك"، بل بمجموعة اتفاقيات داخل وخارج حلف الناتو، إضافة لمواجهة الإرهاب بناء على تخطيط مشترك مسبق، وهو ما سيؤكد أن هناك مصالح مشتركة لا يمكن تجاوزها تحت أي مسمى، بل ويمكن التوافق بشأنها، خاصة مع تعقد المصالح الاستراتيجية المشتركة التي يمكن رصدها والتعامل معها، وفي ظل رهانات تركية رسمية بأن الرئيس ترامب سيذهب بالعلاقات التركية الأمريكية إلى أقصى درجاتها السياسية والاستراتيجية مثلما فعل مع بعض الدول الحليفة، ومن جانب واحد.
ثانيا: لماذا تعجل الرئيس التركي أردوغان بالتأكيد على ضرورة البحث عن حلفاء جدد، والتأكيد على أن الدولة التركية ستمضي في مسارات بديلة، ما يعني تغيير زوايا السياسات الراهنة والعمل على طرح بدائل استراتيجية مختلفة يمكن البناء عليها في ظل مصالح تركية حقيقية في الإقليم بأكمله، وخارجه يجب الدفاع عنها والعمل من خلالها، وهو ما سيثير إشكالية الحليف المنتظر لتركيا، وهو الحليف الذي يمكن لتركيا المضي معه قدما في تنمية علاقاتها الأمنية والاستراتيجية معه في ظل تصاعد الأزمة الاقتصادية داخل تركيا، والتي يمثل فيها جزءا استراتيجيا من تبعات ما يجري، خاصة أن الاقتصاد التركي بات يعاني بالفعل من أزمات حقيقية لم تعد تتجاوز فقط أزمة الليرة التي بدت تداعياتها على السطح بصورة مثيرة، ويمكن أن تظهر في الخطوات التالية التي يمكن أن تدفع بالجانبين لاتخاذ إجراءات حقيقية، فتركيا ربما تفكر في إغلاق القاعدة العسكرية، لكن هذا الإجراء من شأنه الذهاب بالعلاقات التركية الأمريكية لخيارات محددة، وستكون لها تداعيات مكلفة لن يجرؤ الجانب التركي على الاستمرار فيها في ظل الرهان على العمل بصورة منفردة، وهو ما تتخوف منه بعض الدوائر الأمريكية التي تتعامل مع المشهد من منظور أمريكي فقط.
إن محاولات الجانب التركي للتصعيد غير مجدية ولن تصلح مع الإدارة الأمريكية التي ستعمل على التصعيد المقابل، خاصة أن التطورات السياسية والاستراتيجية مع دول الاتحاد الأوروبي ستدفع نحو مزيد من الانقسام بين كل الحلفاء
ثالثا: ليست المشكلة مع الجانب الأمريكي فقط، وتفهم تركيا جيدا أن العلاقات ستطول، بكل امتداداتها، الحلفاء الكبار في الناتو، والذين سينحازون للجانب الأمريكي على الرغم من وجود بعض التباينات في المشهد السياسي والاستراتيجي لدول الحلف، خاصة مع الإجراءات الأمريكية تجاه دول الحلف، والتي أخذت طابعا واحدا ومن جانب واحد، وهو الأمر الذي يمكن للأطراف الأوروبية الدخول على خط التوازنات الجديدة سياسيا واستراتيجيا والعمل عليها، ومن ثم فإن المشكلة ليست كما يتصور البعض إيجاد حل بسبب احتجاز تركيا القس الأمريكي أندرو برانسون الذي يواجه ادعاءات بالتجسس والإرهاب تتعلق بالانقلاب الفاشل عام 2016، فالأصل في الأمر يتعلق بإقدام تركيا على شراء نظام الدفاع الجوي الروسي، وسجن موظفي القنصلية الأمريكية ودعم التيار الإسلامي، إضافة للتحفظات التركية الحقيقية على الدعم الأمريكي للأكراد في سوريا، ورفض تسليم فتح الله كولن، وبالتالي مع تتالي المشكلات والأزمات يمكن التأكيد على أن المأزق السياسي والاستراتيجي للعلاقات التركية الأمريكية يرتبط بتعقد منظومة العلاقات وتداخل أبعادها، فالتوترات في العلاقات ممتدة منذ سنوات، ولم تحسم، إلا أن الإجراءات المتتالية الأمريكية خاصة في البعد الاقتصادي أدت إلى الوصول بالخلاف للعلن والتأزم رغم التأكيد على أن تركيا ستبقى شريكا في حلف الناتو، وأن الجانب الأمريكي يسعى لبقاء تركيا لدورها السياسي والأمني في الإقليم رغم كل الخلافات، ولكن ستبقى المسألة مرتبطة بالفعل بما إذا كانت تركيا ستبقى مرتبطة بالولايات المتحدة، والتي كانت علاقاتها بها قوية جدا من قبل حلف الناتو، ويجب الانتباه إلى أن الرئيس الأمريكي ترامب، والإدارة الامريكية برموزها، ترى أن حلف الناتو لم يعد له وجود، وأنه عبء كبير على الإدارة الأمريكية بالفعل، وأن على دول الحلف تمويله، وتحمل نفقة الدفاع عنهم أمريكيا، وهو ما يمكن تفهمه تركيا على المستويات كافة، فالحلف تجاوز مهامه، وبات يعاني من أزمات مكبوتة ودور غير واضح، ومسعى أمريكي لتقويض أركانه، وهو ما يمكن تحسب تداعياته.
رابعا: ستحتاج العلاقات التركية الأمريكية إلى توزان سياسي حقيقي في ظل استمرار التوتر المرشح للاستمرار، خاصة أن الإجراءات الأمريكية تجاه تركيا يمكن أن تتزايد في ظل الضغط على تركيا، وتراجع الليرة بسرعة أمام الدولار الأمريكي، إضافة لإدراج اسمي وزيري العدل والداخلية في الحكومة التركية على قائمة العقوبات بعد عدم الإفراج عن القس الأمريكي، ما دفع الولايات المتحدة إلى استخدام حقها في المعاملة بالمثل، ودخول الجانبين مرحلة جديدة من الندية المباشرة، وهو الأمر الذي سيدفع تركيا للدخول في خيارات البديل، وهو ما أعلنته تركيا رغم التأكيد التركي أن تركيا وأمريكا حليفتين في الناتو منذ 60 عاما، وأنهما حاربتا معا في كوريا، وأن تركيا بالفعل أرسلت قواتها إلى أفغانستان من أجل إتمام مهام استراتيجية عاجلة، وفي توقيت ما بعد الرد الأمريكي على هجمات 11 سبتمبر، وبالتالي فإن تركيا ليست دولة عابرة في حلف الناتو، كما تربطها علاقات هيكلية بالإدارة الأمريكية تتجاوز مستقبل العلاقات الاستراتيجية، كما أن هناك مساحات من التجاذب الحقيقي والمستمر في التعامل مع موضوع تسليم فتح الله كولن، والذي كان يمكن أن يتم عبر اتفاقية بين البلدين، ومع ذلك رفضت الولايات المتحدة المطلب التركي أكثر من مرة.
خامسا: إن تصميم تركيا على فتح كل ملفات التباين مع الإدارة الأمريكية سيؤدي إلى مزيد من الأزمات بما فيها موضوع الدعم الذي تقدمه الإدارة الأمريكية لوحدات الشعب الكردية فرع العمال الكردستاني في سوريا، واستهداف الولايات المتحدة المدنيين الأتراك والقوات الأمنية التركية في سوريا والعراق وتركيا، وهو اتهام تركي مباشر جاء على لسان الرئيس التركي أردوغان شخصيا، كما هدد المسئولون الأتراك بأن العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ستتحول إلى حرب اقتصادية عالمية، وقد دخلت على الخط، المعارضة التركية التي عملت على دعم الرئيس أردوغان، واعتبارها تمس كرامة الشعب التركي مع التأكيد على تطابق الرؤى والإجماع في التعامل مع السياسات الأمريكية، والغريب ما يسوق إعلاميا وسياسيا في تركيا على اعتبار الإجراءات الأمريكية إرهابا اقتصاديا حقيقيا، ومن المؤكد أن الأزمة ستستمر، خاصة أن الجانب التركي سيعمل على التصعيد الظاهري مع العمل على احتواء تداعيات القرارات الأمريكية الاقتصادية الراهنة، وما يمكن أن تفضي إليه .
سادسا: ستحاول تركيا الدخول في تحالفات نشطة بديلة حقيقية ومتكاملة مع كل من روسيا وإيران والصين بديلا عن أمريكا لبعض الوقت، والمسألة ستتجاوز الدولار أو اليورو أو الذهب، كما ستحاول تركيا تصوير الأمر على أنه حرب اقتصادية، وهو ما سيدفع تركيا للحديث عن ضرورة التنسيق الأوروبي لمواجهة المخطط الأمريكي والخروج من تأثيرات الدولار، والتعامل بالعملات الوطنية، وهو مطلب بات مطروحا في دوائر صينية وروسية وإيرانية عديدة، وسيمثل دعوة للتحرر من السيطرة الأمريكية، وهو ما قد يستثمره الجانب الأوروبي في مواجهته الراهنة مع الإدارة الأمريكية، والمعركة التي يريد الرئيس الأمريكي ترامب أن يحسمها لصالحه في الفترة المقبلة، ولعل هذا الأمر قد برز بعد اجتماع مجموعة السبعة، والتي عقدت في كندا وطالب فيها ترامب صراحة رسميا بعودة روسيا للمجموعة باعتبارها دولة كبرى صناعية، ولمحاولة موازنة الحضور الصيني والأوروبي، بما قد يضعف الجانب الأوروبي الذي سيستمر في الدخول في مواجهات لمراجعة ما يتفق بشأنه سياسيا واقتصاديا، والخطورة في عدم التعامل مع البديل الأمريكي الذي يسعى لفرض استراتيجية حقيقية في المواجهة، ويدرك الجانب التركي جيدا أن العمل بمفرده لن يحقق له أي نجاحات حقيقية في مواجهة الجانب الأمريكي، فجوهر الخلاف تتداخل فيه الأبعاد السياسية والاقتصادية والتجارية، ومن ثم فإن التوصل لنقطة بداية ستكون من خلال إجراءات مشتركة، ومراجعة لنقاط الاختلاف الراهن بين أنقرة وواشنطن .
إن محاولات الجانب التركي للتصعيد غير مجدية ولن تصلح مع الإدارة الأمريكية التي ستعمل على التصعيد المقابل، خاصة أن التطورات السياسية والاستراتيجية مع دول الاتحاد الأوروبي ستدفع لمزيد من الانقسام بين كل الحلفاء، ويبدو أن الرئيس الأمريكي يريد أن يحقق مكاسبه من الوضع الراهن سياسيا واقتصاديا، ولن يتراجع بالفعل، وسيستوي عنده كل الأطراف، ولن يضع سوى المصالح الأمريكية على رأس الأولويات التي يريد أن ينطلق منها إلى ولاية ثانية جديدة، وبالتالي فإن الإدارة الأمريكية ستعمل في مواجهة تركيا وكل الحلفاء الأوروبيين والصين واليابان وكندا من أجل تحقيق مصالحها الاستراتيجية العليا، وما سيجري في مسارات واتجاهات العلاقات التركية الأمريكية مع الفارق في طرح القضايا والملفات الإقليمية، وفقا للمصالح الأمريكية أولا وأخيرا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة