تركيا.. عندما يسير القضاء في طريق متعرج
آليات العدالة في تركيا فقدت مصداقيتها على المستوى العالمي، كما تعاني مسيرة "العدالة" من مشكلات جمة.
أعلنت 42 نقابة من نقابات المحامين في تركيا مقاطعة حفل افتتاح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعام القضائي المقرر عقده في القصر الرئاسي، معتبرة أن في ذلك انتهاكا جديدا لاستقلالية القضاء، ومشددة على أن هذا الافتتاح يجب أن يجري في مقر المحكمة العليا وليس في القصر الرئاسي.
والأرجح أن هذه الخطوة رغم رمزيتها تكشف تفاقم أزمة العدالة في تركيا بفعل الإصرار على تسيس القضاء.
فآليات العدالة في تركيا فقدت مصداقيتها على المستوى العالمي، كما تعاني مسيرة "العدالة" من مشكلات جمة، فليس كل شيء يسير على ما يرام، ولا وفق ضوابط القانون وأحكامه، فالقضاء التركي لا هو محايد، ولا يتمتع بالاستقلالية، وهو الأمر الذي ساهم في اندلاع العديد من الأزمات التي تقف حجر عثرة في طريق استقرار تركيا.
تقييد القضاء
المتابع للتطورات السياسية والواقع الميداني يدرك أن ثمة تراجعا لدور الجهات القضائية في تركيا، كشفته عدد من الإجراءات الاستثنائية التي قلصت من استقلاليته.
أولها ما أنتجته التعديلات الدستورية التي حولت البلاد لجهة النظام الرئاسي في أبريل 2017، إذ تسمح للرئيس بالتدخل مباشرة في تعيينات القضاء الذي يتهمه أردوغان بالتأثر بأنصار الداعية فتح الله غولن، كما أنه بموجب هذا التعديل الدستوري لرئيس الدولة الحق في تعيين 4 من أعضاء الهيئة القضائية العالية التي تضم 13 عضوا ويترأسها وزير العدل.
وثانيها، توظيف القضاء لتأمين الموالين لحزب العدالة والتنمية وغض الطرف عن أفعالهم، وكان بارزا هنا المرسوم رقم 696 الذي أصدره الرئيس التركي في يناير 2018، وبموجبه تم منح حصانة قضائية للأشخاص المدنيين الذين شاركوا في أحداث الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، والأحداث التالية لها التي أسفرت عن مقتل نحو 250 مواطنا ما بين عسكري ومدني، إذ ينص المرسوم الجديد على إعفاء هؤلاء الأشخاص من أي مسؤولية جنائية.
وأثار المرسوم قلقا كبيرا لدى الأوساط السياسية والرأي العام، وتكمن خطورة المرسوم في أنه لا يقتصر على أحداث ليلة الانقلاب، بل نص أيضا على حماية المشاركين بغض النظر عن صفاتهم سواء كانت رسمية أو غير رسمية في "الأحداث المتعاقبة" دون وضع إطار زمني محدد، ويتيح ذلك فرصة الإفلات من العقاب تحت مسمى "صد الانقلاب".
خلف ما سبق، اتجهت الهيئة التنفيذية في تركيا إلى قطع أصابع تيار الممانعة في الهياكل القضائية التركية عشية أحداث يوليو 2016، التي وفرت بيئة مواتية للرئيس التركي لتطويع عمل المؤسسات القضائية التي تضم نحو 15 ألف قاضٍ، حيث اعتقلت السلطات 10 قضاة بالمحكمة الإدارية العليا، فيما تم إعفاء نحو 2745 قاضيا من مناصبهم بينهم خمسة قضاة من المحكمة العليا بتهمة الانتماء إلى حركة "خدمة" التي يتزعمها فتح الله جولن المتهم بتدبير الانقلاب الفاشل.
في المقابل يصر الرئيس أردوغان على التدخل بشكل واضح ومباشر في أعمال القضاء التركي، من خلال توظيف النظام القضائي بأكمله لمصالحه الخاصة؛ من أجل ترهيب خصومه السياسيين.
فمثلا دعا في يونيو 2018 إلى محاكمة خصمه الكردي صلاح الدين دميرتاش المسجون منذ نوفمبر 2016 بزعم "الإرهاب".
كما رفضت المحكمة الدستورية في يونيو 2019 الطلب الذي تقدم به عثمان كافالا المحتجز منذ نوفمبر 2017 بتهمة التورط في مظاهرات جيزى بارك في عام 2013، وكذلك رفضت طلب الإفراج عن الروائي أحمد ألتان الموقوف منذ عام 2018 بتهمة إهانة الرئيس أردوغان.
وفي يناير 2019 أصدرت محكمة تركية بتوصية من حكومة العدالة والتنمية حكما بالسجن لمدة 6 أعوام بحق الصحفية البارزة نازلى اليجاك بتهمة "إفشاء معلومات سرية تخص أمن الدولة"، واتهمت المحكمة اليجاك باستخدام معلومات من وثيقة سرية من هيئة الأركان العامة للجيش في مقالاتها.
التدخل الرئاسي على خط الأحكام القضائية لم يكن جديدا، ففي فبراير 2016 رفض أردوغان إفراجا قضائيا عن رئيس تحرير صحيفة "جمهورييت" المعارضة جان دوندار برغم نفي المحكمة عنه تهمة التجسس.
على صعيد ذي شأن تتجه حكومة العدالة والتنمية منذ وقت نحو أدلجة القضاء التركي بتجذير حضور الموالين للرئيس التركي في الهيئات القضائية، ففي يوليو 2016 أقر نواب حزب العدالة والتنمية في البرلمان التركي قانونا يسمح بتعديل تركيبة عضوية بعض المؤسسات القضائية، وفي الصدارة منها محاكم الاستئناف الإدارية والجزائية والمالية، ويعطي لرئيس الدولة وحكومته والهيئة العليا للقضاة التي تضم أغلبية موالية للرئيس الحق في عزل مئات من قضاتها وتعيين قضاة جدد، بعد اقتصار مدة خدمة القاضي في المحاكم العليا على 12 سنة فقط.
تداعيات ومخاطر
تداعيات سلبية ترتبت على تراجع موقع القضاء في الحياة السياسية في تركيا بفعل الإصرار على تقييده والتدخل في أحكامه وهيمنة السلطة التنفيذية على هياكله.
وتتمثل أهم المخاطر والتداعيات في تسجيل الرصيد التقليدي للسلطة القضائية تآكلا ملحوظا كشفته مناخات بعض الأحكام القضائية المنحازة في القضايا السياسية.
كما تعرضت الصورة الذهنية للقضاء التركي لتشويه في الوعي الجمعي التركي بعد رضوخ عدد كبير من القضاة لتعليمات وسياسات العدالة والتنمية، وتجلى ذلك في سعي ممثلو الادعاء التركي إلى إلقاء جميع أنواع الجرائم على عاتق جماعة "خدمة" بعد اتهامها بتدبير الانقلاب الفاشل في صيف 2016.
وعلى الرغم من أن محاكمات أعضاء "خدمة" تستند إلى أدلة غير موثوق بها، فقد استخدمها الرئيس التركي وحليفه حزب الحركة القومية في ملاحقة خصومهم السياسيين.
وثاني هذه المخاطر يرتبط بانعدام ثقة الدول الأجنبية بمصداقية النظام القضائي في تركيا في ظل هذا الوضع المعقد.
ولعل هذا ما جعل هذه الدول ترفض تسليم أي من هؤلاء الأشخاص، سواء أكانوا مذنبين أم أبرياء، إلى نظام قضائي فقد مصداقيته على هذا النحو. كما وبخ تقرير المفوضية الأوروبية الأخير، والصادر مطلع عام 2019، حكومة العدالة والتنمية لممارساتها ضد المؤسسات القضائية والتدخل في سير العدالة، واعتبر أن ذلك أحد معوقات انضمام تركيا للعائلة الأوروبية.
وراء ما سبق، فقدت السلطة القضائية عددا كبيرا من القضاة الإصلاحيين والرافضين لأدلجة القضاة بعد الإطاحة بهم من قبل الرئيس التركي، وفي الصدارة منهم رئيس المحكمة الدستورية السابق هاشم كيليش الذي انتقد أردوغان عندما كان رئيسا للوزراء، وعشية الاحتفال بالذكرى الثانية والخمسين لتأسيس المحكمة اتهمه صراحة بـ"فساد الضمير" بسبب ممارسته سياسة إلقاء الرعب في قلوب موظفي القضاء بخصوص مصيرهم ومستقبلهم.
على صعيد متصل، فإن التطور الذي أحدثته هيمنة الرئيس التركي على القضاء وإقصاء شيوخه الإصلاحيين والإمساك بمفاصله حتى أصغر شأن فيه، يكرس توجهات الاستبداد على حساب القيم الديمقراطية التي طالما كانت أحد ملامح النموذج التركي.
ويكشف ذلك استخدام العصا الغليظة للنظام في مواجهة خصومه والتململ الذي يتزايد بالسيطرة على مفاصل الدولة، وفي مقدمتها القضاء الذي ربما يكون حال تكرار الاعتداء عليه البوابة الحقيقية للتغير الجذري في أنقرة.
في النهاية يمكن القول إن وضعية مرفق العدالة وأزمته الراهنة لا تعني بالضرورة تجاهل دور القضاء التاريخي والسياسي في تركيا، فلسنوات ظل الحصن القوي لاحتضان وحماية تجربة حزب العدالة والتنمية في مهده عندما كان صبيا.
لكن اليوم، وفي ظل اتجاه العدالة والتنمية نحو ترسيخ الممارسات السلطوية، أصبح القضاء التركي مأزوما، إذ سار في طريق متعرج لم تُعرف ملامحها بوضوح في الفترة الأخيرة. وأصبح التشفي والتعالي وتقسيم الناس على مذبح الانتماءات السياسية والعقائدية هي أبرز عناوين المنظومة القضائية.
aXA6IDMuMTQ1Ljk3LjIzNSA= جزيرة ام اند امز