قاعدة تركية جديدة في قطر.. لهث وراء وهم العثمانية
توجه أنقرة نحو توسيع الوجود العسكري في قطر، يؤكد أن السياسة التركية تبحث عن مداخل للدور والنفوذ بأنماط تتجاوز المواقف السياسية.
سعت تركيا خلال السنوات الأخيرة إلى الاستثمار في توظيف البعد الأيديولوجي في العلاقة مع قطر، حيث توجد بيئة حاضنة في البلدين لاحتضان تيارات الإسلام السياسي إضافة إلى أن كليهما يعاني ضعفاً في المناعة الإقليمية والدولية بفعل الانخراط السلبي في أزمات الإقليم.
وبرغم أن تركيا تحاول تفعيل دورها كقوة إقليمية، فإن توجه أنقرة نحو توسيع الوجود العسكري في قطر من خلال افتتاح قاعدة عسكرية ثانية، يؤكد أن السياسة التركية تبحث عن مداخل للدور والنفوذ بأنماط تتجاوز المواقف السياسية.
والأرجح أن متابعة التوسع التركي عسكرياً في قطر يستهدف تحقيق جملة من المصالح في الصدارة منها استثمار الأموال القطرية للتحايل على الأزمة الاقتصادية التي تعانيها تركيا، إضافة إلى توريد منتجات تركيا العسكرية للدوحة ناهيك عن مسعى تركي لجعل قطر أداة ضغط على دول الخليج وبعض دول المنطقة، مستخدمةً أسلوباً يعتمد التقارب الأيديولوجي، وتارةً أخرى بالغطاء التعاوني والمصلحي.
تمدد عسكري
سعت تركيا إلى تغلغل نفوذها عسكرياً في إمارة قطر الصغيرة والغنية في آن معاً منذ عام 2002، حين وقع الطرفان اتفاقا ينص على تبادل الخبرات العسكرية فضلاً عن توريد معدات عسكرية تركية إلى الدوحة، ثم تلا ذلك في عام 2007 اتفاق يتضمن في جوهره تعزيز التعاون في الأنشطة الأمنية والاستخباراتية.
ووصل التغلغل التركي عسكريا في قطر إلى ذروته عام 2012، ببيعها 10 قطع من المروحيات المسيّرة (درونز)، بقيمة 2.5 مليون دولار كجزء من صفقة معدات عسكرية قيمتها 120 مليون دولار.
وجاء الاتفاق الأكثر حسماً في تمكين تركيا من مفاصل المشهد القطري برمته في ديسمبر 2014، بتوقيع اتفاقية للتعاون في مجالات التدريب العسكري والصناعة الدفاعية وتمركز القوات المسلحة التركية على الأراضي القطرية.
وتحافظ تركيا على تحالفاتها مع قطر من خلال تعزيز مستوى التنسيق الأمني والسياسي معها، وبدا ذلك في استمرار الدعم التركي لقطر عقب قرارات الرباعي العربي الداعي لمحاربة الإرهاب (السعودية- الإمارات- البحرين- مصر) فرض مقاطعة على الدوحة في 5 يونيو 2017.
ووجدت أنقرة في الأزمة القطرية مع محيطها العربي فرصة سانحة لمد نفوذها في منطقة الخليج وامتلاك إطلالة كبيرة على مياهه، ونجحت في الحصول على موافقة الدوحة لإنشاء قاعدة عسكرية تركية جديدة، يُنتظر افتتاحها في الخريف المقبل، لتضاف إلى الوجود التركي الحالي في قاعدة طارق بن زياد.
أهداف متعددة
ثمة أهداف عدة تسعى تركيا إلى تحقيقها من وراء التمدد العسكري في قطر، أولها تعويض خسائر شركات الدفاع التركية، والتي تعرضت لانتكاسة في ظل توجه قطاع معتبر من الدول إلى توقيف وارداتها العسكرية من أنقرة بفعل تدخلاتها السلبية في أزمات الإقليم، وتدعيم روابطها مع الفاعلين من غير الدول، ودعم بعض التنظيمات الإرهابية المسلحة، على نحو بدا جليًا في كل من سوريا ولبنان واليمن والعراق، وليبيا.
وزادت وطأة الشركات الدفاعية التركية مع احتمال تعرض تركيا لعقوبات أمريكية بعد إتمام صفقة منظومة الدفاع الصاروخية S400 مع موسكو، وهو ما دفع الإدارة الأمريكية إلى استثناء شركات تركية كانت تقوم بتصنيع ما يقرب من 938 جزءاً من مكونات الطائرة f35 الأحدث في منظومة التسليح الغربية.
ولذلك مثلت الدوحة ملاذا تعويضيا للخسائر الدفاعية التركية، وكان بارزاً هنا شراء الدوحة 50% من أسهم شركة "بي إم سي" التركية لتصنيع المركبات الحربية، وفي 2017 أنتجت الشركة 1500 عربة مدرعة للجيش والشرطة القطرية.
كما سعت تركيا إلى استثمار موقع قطر كمنصة لتسويق سلاحها في المنطقة، والحصول على عقود تسليح الجيش القطري بعد تدريبه على استخدام السلاح التركي.
وثانيها: يرتبط بممارسة أنقرة أقصى قدر من الضغط عبر وجودها العسكري في الدوحة للحصول على المزيد من الأموال القطرية على شكل استثمارات وصفقات ضخمة أو هبات مالية لا تُرد، وذلك في مقابل توفير الدعم العسكري التركي لقطر الذي بات يصفه بعض المُراقبين الدوليين اليوم بأنّه أشبه بالاحتلال.
وثالثها: يرتبط بسعي أنقرة إلى استثمار وجودها عسكريا في قطر كورقة ضغط ضد القوى الإقليمية والدولية الفاعلة في منطقة الخليج لتحقيق مصالحها.
ويرتبط الهدف الرابع بمحاولة تركيا التأثير على مقاربات دول الجوار العربي في أزمات الإقليم، إضافة إلى إزعاج الأمن القومي العربي، وبخاصة المحور الخليجي المصري المناهض للتمدد التركي في الإقليم، خاصة مع خسارة تركيا جانبا معتبرا من تحالفاتها الأيديولوجية في المنطقة بعد سقوط البشير في السودان، وأزمة تيار الإسلام السياسي في ليبيا وتونس.
وربما تستهدف تركيا من وراء انتشار قواعد عسكرية في قطر إلى استثمارها في تدريب قادة جماعات مسلحة متشددة تقاتل في مناطق الصراعات، وبخاصة سوريا وليبيا والسودان التي تمثل أولويات في استراتيجية المصالح الاقتصادية والدفاعية التركية.
كما توفر القاعدة الجديدة في الدوحة فرصة للرئيس أردوغان لتجسيد حلمه القديم بعودة بسط نفوذ أنقرة على المنطقة العربية، كما أنها تتيح لأنقرة التعامل المباشر مع أزمات الخليج دون الرجوع إلى حلفائها في حلف شمال الأطلسي.
كذلك تسعى تركيا عبر القاعدة العسكرية الجديدة في قطر، إلى تعزيز فرص عودة البحرية التركية إلى المحيط الهندي للمرة الأولى منذ خمسينيات القرن السادس عشر فضلاً عن إمكانية استخدام القاعدتين مستقبلاً مركزا للعمليات التركية المستقبلية ما وراء البحار.
وتسعى تركيا أيضاً إلى توفير المساعدة في حماية النظام القطري الذي يمتلك واحدا من أصغر الجيوش على مستوى العالم، حتى وإن كان ذلك على حساب خسارتها جانبا معتبرا من سيادتها بموجب الاتفاقية الموقعة مع أنقرة في عام 2016، والتي تسمح للأخيرة باستخدام قواتها الجوية والبرية والبحرية الموجودة في قطر في مهمات قتالية، وكذلك للترويج لأفكارها ومصالحها في منطقة الخليج العربي.
في المقابل، فإن الموافقة القطرية على تأسيس قاعدة عسكرية تركية ثانية، يعني في جوهره تخلي الدوحة عن اعتبارات المصلحة مع بعض دول الإقليم لصالح البُعد الأيديولوجي الذي تجلى في استمرار توثيق التحالف مع تركيا وغيران وجماعات الإسلام السياسي، لا سيما أن الدوحة لم تكن تمتلك القوة العسكرية ولا القوة السياسية لتحمى مصالحها ونفوذها، ولذلك كان التحالف مع تركيا هو الخيار الأنسب لقطر، وجعلها رأس حربة في مواجهة جيرانها الخليجيين، وتمكينها من لعب أدوار مؤثرة في المنطقة.
خسائر قطر
برغم أن الدوحة تراهن على الوجود العسكري التركي في توفير حماية لها، فإن القواعد التركية ليس متوقعاً أن تلعب دوراً معتبراً في تحقيق الأهداف الاستراتيجية لأنقرة والدوحة، لأسباب عدة من بينها، أن تركيا ليست الولايات المتحدة التي تمتلك بوارج بحرية في منطقة الخليج، ولديها القدرة على توفير دعم لوجيستي لقواعدها العسكرية -العديد والسيلية- أوقات الأزمات.
كما أن تركيا لا يمكنها إرسال مدد جوى إلى قواعدها في قطر من دون موافقة العراق وإيران، التي تجمعها بهما علاقات مد وجزر وصعود وهبوط من حين لآخر ناهيك عن افتقاد أنقرة ممراً برياً لقواعدها في الدوحة.
لذا، فإن الدوحة قد تفقد الكثير من موقعها وموضعها في المنطقة إلى جانب معتبر من سيادتها في ظل الإصرار على الاستثمار في بناء علاقات مؤدلجة مع تركيا، وإذا ما اختارت التحول إلى الاستقواء بالخارج في حل الخلافات مع جوارها العربي.
والواقع أن الوجود العسكري التركي في الدوحة، تسبب في ضعف مناعة النظام القطري في محيطه العربي، بفعل رضوخه لتوجهات أنقرة.
وتعارض دول الخليج، ومعها مصر، سياسة التمدد العسكري التركي في المنطقة، والذي أخذ في النمو المطرد منذ وصول تميم بن حمد إلى سدة السلطة، باعتبار أن ذلك يوفر بيئة خصبة للتدخلات الخارجية، ويمنح فرصا بالمجان للقوى الساعية إلى تقسيم المنطقة وتفتيت دولها.
جملة القول أن القاعدة العسكرية التركية الجديدة بالرغم من حدود فعاليتها بالنظر إلى اصطفاف دول الرباعي العربي الداعي لمحاربة الإرهاب، فإن تركيا تستهدف عبرها استعادة حلمها القديم، باسترجاع الإرث العثماني في المنطقة ناهيك عن محاولة التأثير على المقاربات الأمنية والسياسية لدول المنطقة.