واقعية دولة الإمارات هي ما تحدد خياراتها السياسية والأمنية، فمواكبتها لمتغيرات الأحداث، تحتم تقييم مشاركاتها الرسمية، ما ينطبق على انسحابها من القوة البحرية المشتركة.
فالانخراط في تكتلات افتراضية، لا يتناسب مع الاستراتيجيات الإماراتية القائمة على أسس التعاون والتعايش.
إن أمريكا مقبلة على انتخابات رئاسية عام 2024، وستكون السياسة الخارجية إحدى نقاط الضعف التي سيستغلها خصوم الديمقراطيين. ولهذا ستعيد واشنطن حساباتها في المنطقة.
ومع انحسار دورها الأمني صعدت أدوار خصومها في الشرق، ما يتطلب استمرارية اللقاءات الخليجية-الأمريكية على المستوى الاستراتيجي. فالعلاقات تاريخية والصداقة وطيدة.
ولعل اللقاء الأخير بين الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، نائب حاكم إمارة أبوظبي مستشار الأمن الوطني، وجيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، يعيد صياغة الضرورات الأمنية، ويرمم الفراغات الأمنية الناتجة عن المواقف الأمريكية الضبابية، تجاه المخاطر التي تمر بالمنطقة، وهو ما أكده سوليفان بإعلان "التزام بلاده بأمن دولة الإمارات وشركائها في المنطقة، والعمل دبلوماسيا على تهدئة النزاعات والتوترات في المنطقة".
التحالفات الوثيقة تؤكدها المواقف الصعبة، ولطالما أكدت الولايات المتحدة على التزامها بدور الضامن الأمني لتحديات المنطقة، إلا أن أفعالها منذ تولي الرئيس جو بايدن السلطة، لا تتفق مع أقوالها؛ لعل أبرزها: إخراج الحوثيين من قائمة الإرهاب، رغم الهجمات الإرهابية التي شنوها على المنشآت النفطية والمدنية في السعودية ودولة الإمارات، وتكرار أعمال القرصنة والاعتداءات على السفن، ما يجعل التزام واشنطن بأمن المنطقة محل تساؤل.
فتكرار الحوادث دون ردة فعل أمريكية ملائمة، دفع دول المنطقة المحورية لمراجعة سياساتها الدفاعية والأمنية، فلا يمكن الاتكال على حليف متردد، والاعتماد على الذات هو أفضل الحلول، لو علمنا أن دولة الإمارات تملك منظومة عسكرية من الأحدث والأكثر فاعلية في العالم.
شهدت المنطقة تطورات سياسية بدخول الصين (ملعب) الملفات الأمنية، بعد أن كان دورها يقتصر على العلاقات الاقتصادية، ما قد يسهم في عزل الدور الأمريكي في الشرق الأوسط، مع انشغال واشنطن في الحرب الروسية الأوكرانية، ونقل قدراتها الدفاعية الحديثة خارج الخليج، مما جعل حلفاءها في دول الخليج يتجهون نحو تنوع الشركاء، لتأمين مصالحهم السياسية والاقتصادية، كان آخرها الرغبة الإماراتية في الانضمام لمجموعة "بريكس"، وحضور دولتي الإمارات والسعودية اجتماع المجموعة الأخير في جنوب أفريقيا، ما يعكس توجها خليجيا لبناء علاقات متوازنة مع مختلف القوى العالمية.
اهتمام الصين بأمن المنطقة، لا يعني التزامها؛ فالوقت كفيل لنشاهد فاعلية الضمانات الصينية، ولهذا التقييم المستمر للمواقف السياسية والأمنية مطلب مهم، في ظل تغيرات النظام الدولي، والسياسات الإماراتية لمد جسور الحوار السلمي، وإبقاء الأبواب مواربة، تتناسب مع تحديات المرحلة الراهنة، وهو ما جعلها تعيد سفيرها إلى طهران، وذكرته في مقالي (قرار إعادة السفير)، بتاريخ 28/8/2022، جاء فيه: "يُسهم قرار إعادة سفير دولة الإمارات إلى إيران في خفض توترات المنطقة، وحل القضايا عبر الحوار، مع التركيز على تعزيز الشراكات الاقتصادية".
ينسجم قرار انسحاب دولة الإمارات مع استراتيجياتها المبنية على تصفير المشكلات، ولو اعتقد البعض، أن قرار الانسحاب كان لأغراض تكتيكية للضغط على واشنطن، فلا بأس من هذا الطرح، ولو نسبيا.
إن كانت دولة الإمارات تبحث عن ضمانات أمنية والتزامات دفاعية، خصوصا بعد مماطلة إدارة بايدن بشأن صفقة طائرات إف35 التي أبرمتها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، فالمصداقية الإماراتية التي تعاونت استراتيجيا مع الولايات المتحدة بكل فاعلية، في ملفات إنسانية عديدة، لا سيما الصومال وأفغانستان، وجهود مكافحة الإرهاب في العراق وسوريا واليمن، تملك الحق باستخدام أدوات الضغط الإيجابية، مع دولة صديقة بحجم أمريكا، لإعادة مراجعة التوازنات الأمنية في المنطقة وضمان استدامتها، بغض النظر عن هوية ساكن البيت الأبيض.
لا بد من تقييم نتائج تشكيل القوة البحرية المشتركة، وإن كان أمن الملاحة البحرية أكثر أمانا واستقرارا، فمن المعلوم أن الاعتداءات على خطوط الملاحة مستمرة، بما فيها عمليات تستهدف القوات الأمريكية في العراق، ولم يكن رد واشنطن بمستوى خطابها الصارم.
لم تعد التحالفات والتكتلات الإقليمية والدولية، المرتبطة بمصلحة طرف على حساب الآخر أو الآخرين مقبولة، فالأصل بناء العلاقات على المصالح والتقديرات المشتركة، وبهذه الشفافية والخطوات الثابتة، تسير دولة الإمارات بعقلانيتها المعهودة، وميزان سياساتها المرتبط بالاستقرار والازدهار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة