لقد أثبتت الدراسات والتجارب أن استشراف المستقبل والتطلع إليه بات حتميا للدول والمجتمعات، حتى صار جزءا لا يتجزأ من خططها الاستراتيجية.
بل إنه غدا بحد ذاته علما وفلسفة معاصرة تعكس التقدم الحضاري والاجتماعي والعلمي والمعرفي لكل دولة.
إن صناعة المستقبل والتنبؤ به لم تكن وليدة اللحظة، التي تعيشها المجتمعات، إنما جاءت دراستها وتحليلها المنطقي بالربط بين معرفة الماضي وإدراك الحاضر وترجمة ذلك إلى استشراف المستقبل والنهوض بالمجتمع.
وقد تطرق لذلك العديد من المفكرين والفلاسفة، حيث قال "ابن خلدون" إن فهم المستقبل يتطلب استقراء الماضي والحاضر المعاصر، أما "الفارابي" فأكد أن التفكير المستقبلي "يعتمد على الحضور الذهني والإدراك العقلي والحسي وارتباطهما بالزمان والحاضر لكي نستطيع التهيؤ للمستقبل".
وقد أدركت دولة الإمارات العربية المتحدة أهمية المستقبل والاستعداد والتطلع إليه مبكرًا، إذ ترسخت حتميته وضرورته في رؤية مؤسس وباني نهضة الإمارات، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيّب الله ثراه، عبر تعزيز المستوى العلمي والمعرفي للدولة وبناء القدرات اللازمة لمواجهة المستقبل، وهنا نستحضر مقولته بأن "الرجال هم من يصنعون مستقبل أمّتهم".
وقد تواتر هذا النهج الاستشرافي للمستقبل وتُرجم على أرض الواقع في الإمارات من خلال رؤية ثاقبة ومتكاملة لمؤسسات الدولة في مجال التخطيط الاستراتيجي ورؤية الغد، حيث أطلقت الإمارات خطتها لاستشراف المستقبل في عام 2016، لتكون بمثابة توجه مستدام لتحقيق الأهداف الوطنية ومواكبة التحديات والمتغيرات العالمية كافة.
وبالنظر إلى مضمون تلك الاستراتيجية نجد أنها تناولت جوانب عدة تُوائم مستقبل التنمية البشرية والاقتصادية والصحية والتعليمية والاجتماعية والتكنولوجية وغيرها من العوامل، التي تسهم في تعزيز حياة البشرية.
ولعل التطبيق الفعلي لصناعة المستقبل يتطلب قرارات استراتيجية تتناسب مع الخطط والبرامج الرُّؤيوية التي تستوجب العمل الدؤوب في الوقت الراهن، وإدراك الحاضر بتطوراته ومتغيراته المتسارعة كافة، ويشير إلى ذلك الاقتصادي الأمريكي، بيتر دراكر، حين يقول إن "التخطيط طويل المدى لا يتعامل مع القرارات المستقبلية، بل مع مستقبل القرارات الحالية".
صناعة المستقبل تحتاج إلى تفكير منطقي وتهيئة بيئة خصبة لرسم السيناريوهات وكيفية القدرة على تحليل ودراسة ما هو آت، ما يتطلب حضورا ذهنيا، فضلا عن توافق إدراك عقلي وحسِّي للتعامل مع التحديات وتعزيز القدرات المعرفية والعلمية، حسبما قال رئيس وزراء بريطانيا العظمى الراحل، ونستون تشيرشل: "إمبراطوريات المستقبل هي إمبراطوريات العقل".. لذا فإن صناعة المستقبل تتطلب عقولا متسلحة بالعلم والمعرفة غير التقليدية.
وإذا ما تطرقنا لإسهامات دولة الإمارات بتهيئة التفكير الاستشرافي للمستقبل، نجد نوعية المبادرات والبرامج والفعاليات، التي تم إطلاقها، وتمثلت في إنشاء "مؤسسة دبي للمستقبل"، لتواكب هذه التطلعات والإسهام في تصميم وصناعة الغد، كما كان لعقد القمة العالمية للحكومات، التي تستضيفها الإمارات سنويا، دور بارز باعتبارها حدثا عالميا متميزا يجمع حكومات المستقبل تحت مظلة واحدة، فمثل تلك المبادرات واللقاءات تدعم التفكير المستقبلي الممنهج، ما يكون له عظيم الأثر على الصعيدين المحلي والعالمي، إذ ينعكس إيجابا على مؤسسات الدولة، ليكون دافعًا للتركيز على استشراف المستقبل ضمن الأولويات الاستراتيجية ووضع التصورات والسيناريوهات لشكل وماهية الخدمات، التي سيتضمَّنها عالم الغد، تماما كما أكد صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي: "إننا مغرمون بالمستقبل، وصناعته جزء من عمل حكومتنا".
لم تقف صناعة المستقبل في دولة الإمارات عند إطار وحدود معينة، بل تجاوزت التوقعات، وذلك مع افتتاح متحف المستقبل باعتباره تحفة معمارية تواكب التطور الحضاري وتعكس النضج الفكري، والذي يأتي دوره مكملًا للجهود المبذولة في هذا الصدد ومنارة علمية وثقافية رائدة في صناعة غد مشرق، وهنا نستحضر مقولة صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم: "المستقبل لا ينتظر، المستقبل يمكن تصميمه وبناؤه اليوم".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة