المجلس الوطني الاتحادي يمثّل مرحلة من مراحل التطور التاريخي والمؤسسي لممارسة الشورى في دولة الإمارات ومواكبة بناء الدولة.
طيلة المسيرة التاريخية للمجلس الوطني الاتحادي، الذي يمثّل السلطة التشريعية في دولة الإمارات، هناك مناسبتان تاريخيتان يجب التوقف عندهما مليّاً؛ أولهما ذكرى التأسيس، التي احتفل بها المجلس هذا الأسبوع، حيث أُسّس في الثاني عشر من فبراير عام 1972، لتكتمل به أركان الاتحاد، باعتباره، السلطة الرابعة من حيث الترتيب ضمن السلطات الدستورية الاتحادية الخمسة في دولة الإمارات، مجسّداً حلم القائد المؤسس المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، في تعزيز أركان الاتحاد وتمتين دعائمه، عبر إطار مؤسسي يترجم نهج الشورى الذي يمثل إرثاً راسخاً في علاقة الحاكم بالمواطنين في دولة الإمارات من قبل تأسيس دولة الاتحاد بسنوات وعقود طويلة.
تفوق المجلس في توظيفه لآليات العلاقات الدولية وبناء جسور التعاون والحوار مع برلمانات العالم، على مؤسسات تشريعية في دول عريقة، كما يمضي المجلس وفق رؤية استراتيجية توفر له قدراً كبيراً من القدرة على استشراف المستقبل وتحدياته والاستعداد لها من الآن
المجلس الوطني الاتحادي يمثل إذاً مرحلة من مراحل التطور التاريخي والمؤسسي لممارسة الشورى في دولة الامارات، ومواكبة بناء الدولة عبر إطار اتحادي ربما لا يدرك البعض منا الكثير من مبادئه التي وضعها القائد المؤسس، الذي خاطب أعضاء المجلس في التاسع عشر من يوليو 1972 قائلاً "إنني أطالبكم أن تقولوا رأيكم بصراحة في كافة القضايا التي تُعرض عليكم، ولا يهمكم شخص، كبير أو صغير، لأنكم لا تمثلون أنفسكم، فأنتم تمثلون أمة بأكملها، ومجلسكم هو مجلس أمة، وعليكم أن تبحثوا الأمور التي تحقق الصالح العام دون تراخٍ، فأنتم الحامية المخلصة لآمال هذا الشعب، وأنتم الحامية الحريصة على مستقبل هذا الوطن إن المجلس ليس عليه رقابة أو وصاية من أي فرد أو جهة من الجهات، ولقد كفل لكم الدستور الحقوق الكاملة، وهذا يعطيكم الاطمئنان للتعبير، ونحن نرحب بكل اقتراحاتكم البناءة ونعمل دائماً على الاستجابة لها".
هل يتصور البعض أن يكون هذا القدر من الحريات والشفافية والمكاشفة والمحاسبة، والحوكمة ضمن الإطار المفاهيمي للحكم في دولة وليدة، تتلمس خطاها في مشهد إقليمي ودولي بالغ التعقيد آنذاك؟! لم تكن كلمات القائد المؤسس، بكل ما تحمله من مضامين وأبعاد ودلالات سياسية تستحق التوقف عندها، هي فقط منهاج عمل المؤسسة التشريعية، بل سبقها الدستور، الذي نص في المادة (77) على أن عضو المجلس الوطني الاتحادي ينوب عن شعب الإمارات جميعه وليس فقط عن الإمارة التي يمثلها"، وفي المادة "81" لا يؤاخذ أعضاء المجلس عمّا يبدونه من الأفكار والآراء في أثناء قيامهم بعملهم داخل المجلس أو لجانه"، وضمنت المادة (86) علانية جلسات المجلس، لترسخ الشفافية والوضوح في البناء السياسي للدولة.
المناسبة التاريخية الثانية الفارقة في تاريخ العمل البرلماني التشريعي في دولة الامارات، هي إطلاق برنامج "التمكين" عام 2005، حيث دشن صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة ـ حفظه الله ـ في خطابه بمناسبة الذكرى الرابعة والثلاثين للاتحاد خارطة طريق للتنمية في مجالاتها وتجلياتها كافة، ومنها التنمية السياسية، ليكون هذا البرنامج بمنزلة نقطة تحول ونقلة نوعية في مسيرة السلطة التشريعية بالدولة، من خلال ما ورد في خطاب صاحب السمو رئيس الدولة "إن المرحلة المقبلة من مسيرتنا، وما تشهده المنطقة من تحولات، وإصلاحات تتطلب تفعيلاً أكبر لدور المجلس الوطني الاتحادي، وتمكينه ليكون سلطة مساندة، ومرشدة، وداعمة للمؤسسة التنفيذية، وسنعمل على أن يكون مجلساً أكبر قدرة، وفاعلية، والتصاقاً بقضايا الوطن، وهموم المواطنين تترسخ من خلاله قيم المشاركة الحقَّة، ونهج الشورى من خلال مسار متدرج منتظم".
وقد تمت ترجمة هذا البرنامج إلى خطوات عمل دقيقة، تعكس خصوصية التجربة التنموية في دولة الإمارات، وتضمن الحفاظ على هويتها ومبادئها واستمرارية الإنجازات الهادفة إلى تحقيق رفاه المواطنين، فاقتضى الأمر الارتكاز على نهج متدرج يراعي كل هذه الاعتبارات ويصونها، وتم تدشين المشاركة السياسية، كأحد تجليات برنامج التمكين، بتنظيم التجربة الانتخابية الأولى للمجلس الوطني الاتحادي في ديسمبر 2006، وحظيت فيها المرأة للمرة الأولى بحق الترشح والتصويت، حيث فازت أول إماراتية بأحد مقاعد المجلس، وهي د. أمل القبيسي، الرئيسة الحالية للمجلس، وتم تعيين 8 نساء أخريات ليصل عدد المقاعد التي شغلتها المرأة في المجلس إلى تسعة مقاعد، وتواصلت التجربة بنجاح وتميز وأُجرِيت انتخابات عامي 2011، ثم عام 2015، واستمر نهج التدرج وتوسعت الهيئات الانتخابية بوتيرة كبيرة تناسب حجم النجاح الذي شهدته كل تجربة على حدة.
هاتان المحطتان التاريخيتان المفصليتان تعكسان سمة أساسية من سمات التجربة الاتحادية في دولة الامارات، وهي سمة التفرّد والتميز، التي تبدو واضحة في مختلف مجالات التنمية بالدولة، فالإمارات تختار طريقها وفق ظروفها وقيمها ومبادئها ومصالح شعبها، وتمضي واثقة لأنها تدرك جيداً أن هدفها الرئيسي منذ قيام دولة الاتحاد هو بناء نموذج ملهم في التنمية وتوظيف الموارد لمصلحة الإنسان.
هذه الخصوصية الهوياتية كانت عاملاً أساسياً في تجنيب الإمارات سلبيات تجارب تنموية أخرى في المنطقة والعالم، وحالت دون الانزلاق إلى فخاخ استنساخ ممارسات سياسية لا تتناسب مع ظروف مجتمعنا، وانتجت في الوقت ذاته كل هذا القدر من النجاح والتميز والتفرّد، الذي تُوّج بأن تحولت الدولة إلى عاصمة للعالم ونموذج ملهم في مختلف مجالات التنمية، وفي القلب منها ممارسة المجلس الوطني الاتحادي لأدواره المختلفة، الرقابية والتشريعية والدبلوماسية البرلمانية، حيث تفوق المجلس في توظيفه لآليات العلاقات الدولية وبناء جسور التعاون والحوار مع برلمانات العالم، على مؤسسات تشريعية في دول عريقة، كما يمضي المجلس وفق رؤية استراتيجية توفر له قدراً كبيراً من القدرة على استشراف المستقبل وتحدياته والاستعداد لها من الآن، بما يعني أن الإطار التشريعي ينسجم ويتماهى تماماً مع مؤسسات الدولة الأخرى في رحلة البحث عن الريادة العالمية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة