جاءت وثيقة الأخوة الإنسانية التي توجت لقاء البابا فرنسيس وشيخ الأزهر لتؤرخ مرحلة مغايرة في علاقة أبناء الأديان الإبراهيمية وبعضهم بعضا
ما الذي يستدعي قيام تنظيم القاعدة بمهاجمة زيارة البابا فرنسيس بابا الكنسية الكاثوليكية إلى دولة الإمارات العربية المتحدة في أوائل شهر شباط/فبراير الماضي؟
يتم تداول هذا التساؤل لدى الجماعات الفكرية المهتمة بمسألة الحوار بين أتباع الأديان، والتي تقدر للإمارات حق دورها الكبير ومساعيها السلمية العديدة طوال الأعوام الماضية في التقريب بين وجهات النظر، وجاءت وثيقة الأخوة الإنسانية التي توجت لقاء البابا فرنسيس وشيخ الأزهر لتؤرخ مرحلة مغايرة في علاقة أبناء الأديان الإبراهيمية وبعضهم بعضا، مرحلة تجاوزت طرح الحوار إلى فعاليات الجوار والعمل المشترك معاً لصالح خير الإنسانية، وهو ما يبدو أنه أزعج الغرابيب السود، ودعاة الشر المجاني من الإرهابيين ومن يدعمهم، لا سيما الإعلام التابع لجزيرة الشيطان بعينها.
ما تقوم به الإمارات هو فتح جديد في التاريخ، فتح للقلوب والعقول والعيون على حقائق الواقع المعاصر بكل آماله وألامه، وظهور القاعدة ونقدها زيارة البابا يعزز محاربة الإمارات الفكرية للإرهاب، ومؤتمرات ومنتديات الإماراتيين تذكر العالم بأنه لا يمكن التغلب على شبكات الإرهاب بالوسائل العسكريةلم يكن من الغريب أو المثير أن يظهر قيادي القاعدة "خالد باطرفي" عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي ترعاها إمارة الشر، وهو من يمثل الوجه الإعلامي لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، ليصف الزيارة التاريخية لرأس الكنيسة الكاثوليكية إلى الإمارات بأنها "مؤامرة ضد الإسلام والمسلمين"، مؤامرة تواطأ فيها حكام العرب وعلماء المسلمين، حسب وصفه المنافي والمجافي لحقائق الزيارة التاريخية وما نتج عنها.
لقد تيقن الذي قدر له مطالعة وثيقة الأخوة الإنسانية من أن فتحا إنسانيا جديدا أضحى حقيقة واقعية، وأنه يمكن البناء على أساس هذا الواقع، والتأصيل والتجذير لعالم من المواد الإنسانية تكون الأديان فيها مقدمات للخير والإعمار، وتلاقي القلوب والعقول، واكتشاف المعين الإنساني في كل دين، وتعظيم منافع الناس.
لكن رجل التنظيم الإرهابي لا يرى في كل ما جرى على أرض الإمارات إلا "أجندة خفية تهدف إلى تمييع الدين، والدعوة إلى ما أطلق عليه نسخة مخففة من الإسلام تناسب الغرب وتضعف المسلمين"، واستشهد بأحاديث وآيات عديدة من القرآن، زاعماً أنها تثبت أن المسلمين ملزمون بمحاربة أعدائهم المسيحيين في ظروف معينة، ووصف المسيحيين على العموم بأنهم يمتلكون أجندة نشطة وقوية لتقويض المسلمين، ودعا علماء المسلمين إلى ما أسماه "القيام بواجبهم والجهر بـالحق" بين المسلمين، وحثهم أيضاً على شجب زيارة البابا.
هذا هو كل ما يملكه إعلام التنظيم الذي تسبب في مقتل الآلاف وإشاعة الذعر والخوف حول العالم، وترويع الآمنين من أقصى المسكونة إلى أقصاها طوال عقدين من الزمان، ويبقى السؤال إلى متى يترك المجتمع الدولي قطر الراعي الرسمي لإرهاب القاعدة تسخر من وسائل إعلامها عبثاً للنيل من كل مبادرة إيجابية خلاقة تنشد سلام العالم وإنهاء أزمنة الحروب وسفك الدماء؟
لا يهمنا بحال من الأحوال التوقف كثيراً أمام تصريحات باطرفي ومن لف لفه، أما الذي يشغلنا في الحال والاستقبال هو دعم وزخم مشروع الإمارات الخلاق لنشر السلام بين الأمم، وما من طريق لفعل ذلك إلا شيوع وذيوع السلام بين أتباع الأديان.
من المؤكد والمقطوع به أن رجال القاعدة من زمن بن لادن وصولا إلى باطرفي ليس لهم دالة على قراءة أو حتى معرفة اسم اللاهوتي السويسري الكبير "هانز كونج "، السويسري الأصل صاحب مشروع الأخلاق الإعلامية، ومطلق الصيحة الشهيرة: "لا سلام بين الأمم بدون سلام بين أتباع الأديان".
يبحث "كونج" في عمق الأديان كرسائل للسلام لا كأدوات للخصام، وعنده أنه في زمن يملك فيه البشر من الوسائل الإعلامية والتقنية الكثير الذي ييسر تواصلهم، فإنه يبقى فرض عين على المؤمنين الحقيقيين أن يسعوا إلى تجنب الحروب، وعوضاً عنها لا بد لهم من تعزيز أركان السلام الأممي، وإنه لتحقيق ذلك لا غنى عن إعادة القراءة والتفسير الدقيق لكل رواية من الروايات التي تشكل تقاليدها الدينية، وتتضح أهمية وجود فهم معاصر للقرآن في عدم قبول المقولات التي تتحدث عن الحرب دون نقد على أنها مبادئ قاطعة، أو قواعد قانونية جامدة لا بد من فهمها بشكل نقدي، وفي سياقاتها التاريخية، والانتقال بها من ذلك إلى السياق إلى وقتنا المعاصر، والأمر لا يتوقف عند الإسلام قط، بل يبدأ من التوراة ثم الإنجيل وصولا إلى القرآن كتسلسل تاريخي.
ولتحقيق تفسير ديني يحمل في طياته روح السلام يشير "هانز كونج" إلى أنه ينبغي تفسير الأقوال والأحداث النضالية في كل رواية من الروايات في التقاليد الدينية في السياق التاريخي للزمن الخاص بها، ودون التغاضي عن شيء، ويرى أن هذا المنهج الفكري ينطبق على الديانات الثلاثة، فعلى سبيل المثال:- ينبغي فهم حروب "يهوه" القاسية ومزامير الثأر التي لا تلين في التوراة في سياق الحفاظ على أرض الآباء، وما أعقبها من الدفاع عن الذات ضد أعداء أكثر قوة.
- أما حروب القرون الوسطى للمسيحية فلا يمكن نزعها عن السياقات والنطاقات الاقتصادية والسياسية في تلك المرحلة التاريخية من عمر منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط.
- دعوات القرآن إلى الحرب تعكس الحالة المحددة للنبي في فترة المدينة والطبيعة الخاصة للسور المدنية تحديداً، تلك السور التي تدعو للقتال ضد أهل مكة المشركين، ولا يمكن استخدامها اليوم كمبدأ لتبرير اللجوء إلى القوة.
ما تقوم به الإمارات هو فتح جديد في التاريخ، فتح للقلوب والعقول والعيون على حقائق الواقع المعاصر بكل أماله وآلامه، وظهور القاعدة ونقدها زيارة البابا يعزز محاربة الإمارات الفكرية للإرهاب، ومؤتمرات ومنتديات الإماراتيين تذكر العالم بأنه لا يمكن التغلب على شبكات الإرهاب بالوسائل العسكرية، بل باجتثاث الظروف التي تعمل على ازدهاره، وفي مقدمتها الجهل بالآخر والخوف منه، فالناس أعداء ما يجهلون.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة