شخصية البابا فرنسيس تلعب ولا شك دوراً مهمًّا للغاية في الفضاء الخلفي لحاضرة الفاتيكان، بل تشكل بالفعل ثورة في طريقة التعاطي مع العالم.
إنه يوم غير اعتيادي في تاريخ منطقة شبة الجزيرة العربية، وضيف فوق العادة هو ذاك الذي تستقبله دولة الإمارات، لا سيما أنه اتسم برؤاه الإصلاحية داخل حاضرة الفاتيكان، فقد جاء البابا فرنسيس ليعلن للعالم برمته أن زمن إصلاح القلب قد حان، وأن المؤسسة الرومانية الكاثوليكية على موعد مع مفهوم جديد لكنيسة مغايرة.
أعطى فرنسيس مثالاً للفقر الإنجيلي، فهو حتى الساعة يرفض العيش في السكن المخصص للبابوات في القصر الرسولي، ويفضل عليه "غرفتين صغيرتين" في دار سانتا مارتا للضيافة، ينتعل حذاءً طبياً رخيصاً، ويغير عدسات نظارته من دون تغيير الإطار
ومن بين أحد الأسئلة المهمة والجوهرية التي طُرحت ضمن سياق وأطر الحديث عن عملية الإصلاح في حاضرة الفاتيكان، هو ذاك الذي طرحته مجلة "ناشيونال جيوجرافيك الأمريكية الشهيرة تحت عنوان "هل ينجح الفاتيكان في تغيير البابا؟ أم ينجح البابا في تغيير الفاتيكان؟" والتحقيق للكاتب "روبرت داريير"، صاحب كتاب "البابا فرنسيس والفاتيكان الجديد".
يخبرنا "داريير" أنه وبعد شهرين فقط من اختياره حبراً أعظم، خاطب فرنسيس مجموعة من أصدقائه الأرجنتينيين بالقول: "ينبغي لي أن أحدث تغييرات فورية"، ويبدو أن هذا ما حدث ويحدث على الأرض.
عبر أول لقاء له مع الصحافة الدولية عبّر فرنسيس عن طموحه الأساسي، قائلاً: "كم أحب كنيسة فقيرة شغلها الشاغل هو الفقراء"، وبدلاً من الاحتفال بأمسية قداسة الخميس المقدس في إحدى الكاتدرائيات، وغسل أقدام القساوسة كما جرى التقليد، ألقى البابا فرنسيس موعظة في أحد سجون الأحداث بالقرب من روما، حيث غسل أقدام مساجين، من بينهم نساء ومسلمون، وهو أمر لم يقدم عليه أحد من البابوات من قبل، حدث كل ذلك خلال أول شهر لأسقف روما الجديد فرنسيس.
تلعب شخصية فرنسيس ولا شك دوراً مهمًّا للغاية في الفضاء الخلفي لحاضرة الفاتيكان، بل تشكل بالفعل ثورة في طريقة التعاطي مع العالم، ذلك أنه فيما كان المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962 – 1965) تاريخاً فاصلاً لواقع الكنيسة المعاصر في العالم، فإن فرنسيس يرسم عالماً مغايراً وراء جدران الفاتيكان.
إن الدبلوماسية في نظر البابا فرنسيس هي غير مرتبطة بشكل كبير بالاستراتيجية ولكن بتوجهات مفادها "التقيت هذا الشخص، والآن بيننا علاقة شخصية، فدعونا نفعل ما فيه الخير للناس والكنيسة".
أعطى فرنسيس مثالاً للفقر الإنجيلي، فهو حتى الساعة يرفض العيش في السكن المخصص للبابوات في القصر الرسولي، ويفضل عليه "غرفتين صغيرتين" في دار سانتا مارتا للضيافة، ينتعل حذاءً طبيًّا رخيصاً، ويغير عدسات نظارته من دون تغيير الإطار، إذ يحتفظ بالقديم عينه، ويفتح محفظته كأي مشتر عادي ليدفع الثمن، ويرفض ركوب السيارة الليموزين المعدة له، ليشارك الأساقفة والكهنة في الحافلة المخصصة لهم، ما يعني أن ثورته تبدأ من عند الذات، وحدودها، لا من حيث يرى الآخرين.
يقول الأب "توماس. جي. ريس" وهو قس يسوعي وأحد كبار المحللين في دورية "The National Catholic Report": لو سألت أي شخص في الشارع قبل سنتين عما تمثله له الكنيسة الكاثوليكية، لأخبرك بأنها تلك المؤسسة التي تقف ضد المثليين، وضد تحديد النسل، وما إلى ذلك. أما اليوم فتجد الناس يحدثونك عن البابا بصفته نصيراً للفقراء، لا يعيش في قصر، وهذا إنجاز غير مسبوق يحسب لهذه المؤسسة العتيقة.
ومن المثير أن تعليق الأب "توماس" هذا استدعى قول أحدهم: "إن على كلية الأعمال في جامعة هارفارد العريقة، الاستعانة بأسلوب فرنسيس لتلقين مهارات إعادة صياغة الهوية التجارية، ولعل العديد من السياسيين يغبطونه لما يحظى به من قبول واستحسان لدى الجمهور".
لم يُجب فرنسيس في واقع الأمر آمال أنصار التعبير من أمثال الكاردينال "توركسون"، ففي خلال أول عامين من ولايته قام بتعيين 39 كاردينالاً، منهم 24 كاردينالاً من خارج أوروبا، وقبل أن يلقي خطبته في ديسمبر 2014، التي عدَّد فيها ما تعانيه الكنيسة والإدارة البابوية من أوجه القصور والآفات ومنها: "التباهي، والنميمة، والسعي للربح الدنيوي"، كلف تسعة كرادلة بإجراء إصلاحات في المؤسسة؛ سبعة منهم لا ينتمون إلى الإدارة البابوية، ونعت الاعتداءات الجنسية في الكنيسة بأنها "مذهب تدنيسي"، وشكَّل "اللجنة الأسقفية لحماية القاصرين، ووضع على رأسها رئيس الأساقفة في بوسطن "شين باتريك أومالي".
على أن السؤال الذي يراود ذهن القارئ: هل هذه الإصلاحات جميعها مقبولة ومرغوبة وراء جدران الفاتيكان وربما خارجها، أم أن هناك من الناقدين إلى حد النقمة عليها وعلى فرنسيس نفسه لأسباب أو لأخرى؟
الثابت أن ثورة فرنسيس الإصلاحية لا تحظى باستحسان الجميع، فهو يدلي بخطابات تتسم بحرية كبيرة يسهب فيها بعرض آرائه، ويوافق على إعطاء مقابلات توصف بالارتجالية أحياناً، ويتخلى عن التقيد بطقوس احتفالية معروفة، ويرفض إدانة التطورات المجتمعية التي انتقدها كل من يوحنا بولس الثاني وبندكتوس السادس عشر، وهذا ما حمل الأوساط الكاثوليكية المحافظة على توجيه النقد له.
يتخوف المحافظون من أن يؤدي حرصه الشديد على العمل الجماعي، وإضفاء الديمقراطية على الكنيسة إلى إصابة هذه الكنيسة بالشلل والفوضى.
بحسب صحيفة "الجارديان" البريطانية، ينقسم نقاد البابا فرنسيس إلى معسكرين: بعضهم يعتقد أنه يسعى إلى التغيير أكثر من اللازم، والبعض الآخر يرى أن عليه أن يفعل أكثر من ذلك.
هل لهذا هناك من يدير حالة من التذمر ضد البابا المصلح؟ في فبراير/شباط 2017 أكد مجلس الكرادلة التسعة المكلف بمساعدة البابا في قيادة الكنيسة وإصلاح الكوريا الرومانية "دعمه الكامل وولاءه التام لشخصه وسلطته".
لا يترك فرنسيس كرادلة الكنيسة يحلقون في فضاءات من غير وسائل وآليات للمساعدة، وفي المقدمة منها الاثنا عشر معياراً للتصرف التي وضعها قداسته بهدف متابعة إصلاح الكوريا وهي كالتالي: الارتداد الشخصي، الحس الرعوي، الحس الرسولي، العقلاني، العملية، العصرية، الرصانة، التبعية، المجمعية، الكثلكة، المهنية والتدرج. كما وضع خطة أولية حول الإصلاح، معدِّداً المراحل الأساسية التي تم إنجازها، لا سيما في المجال المالي، وبنى الدوائر البابوية كما الجهود التي بذلت لحماية القاصرين.
ما هي الكنيسة التي يريدها فرنسيس للمسيحية والمسيحيين في نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟ وما هي مقاربته للإصلاح كما يراها أمين سر دولة حاضرة الفاتيكان الكاردينال "بيتر بارولين" ذلك الدبلوماسي المخضرم؟
باختصار غير مخل وفي الذكرى الرابعة لانتخاب البابا فرنسيس أي في 13/3/2017، تحدث الرجل الذي يعد رئيس وزراء الفاتيكان إلى إذاعة الفاتيكان مجيباً عن الأهمية التي أولاها البابا فرنسيس للكنيسة التي تخرج وتنطلق، والتي تسير في أسلوب سينودسي وقال إنها مسيرة طويلة، وفي نمو، بدأت مع المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني الكبير، ويريد البابا فرنسيس أن يتابع تطبيقها في حياة الكنيسة.
أما عن الإصلاح الذي يقوم به الحبر الأعظم فأشار الكاردينال باولين إلى أن الكنيسة في إصلاح مستمر وهذا ما نراه عبر التاريخ، وما يقوله لنا أيضاً المجمع الفاتيكاني الثاني. إنه بعد جوهري للكنيسة وهي أن تكون في إصلاح مستمر وارتداد دائم، وأنه أمر حق وواجب ويذكرنا به الأب الأقدس على الدوام.
لكي تكون الكنيسة نفسها، وتصبح حقيقية أكثر فأكثر، ينبغي عليها أن تزيل الرواسب التي تتراكم خلال مسيرتها عبر التاريخ فتسطع مجدداً كانعكاس للإنجيل.
هذا هو المعنى الأساسي للإصلاح، ولذلك يشدد البابا فرنسيس على "إصلاح القلب"، لأن كل إصلاح -حتى على صعيد الكوريا الرومانية- ينطلق من القلب، ومن داخل الإنسان، وبالتالي فالمعايير التي ينبغي عليها أن تقود هذا الإصلاح هي معايير العودة إلى الله، وإظهار طبيعة الكنيسة الحقيقية.
تبدو ثورة فرنسيس في كل الأحوال، ثورة تتجاوز جدران الفاتيكان، من دون أن يكون في ذلك انقلاب على التعاليم والمبادئ الإيمانية والأخلاقية، أو تجاوز للعقيدة الكاثوليكية، وذلك ما يؤكده صديقه الأرجنتيني "دي لا سيرنا" إذ يقول: "إنه لن يغير المذهب، بل سيعمل على إعادة الكنيسة إلى مذهبها الحق.. ذلك الذي نسيه البعض أحياناً، والذي يعيد الإنسان إلى صلب الاهتمام، فقد بقيت الكنيسة عبر سنين طوال تركز على الخطايا والآثام، وعندما تعود للتركيز على معاناة الناس وعلاقتهم بالله، فسوف يتحقق تغيير في موقفها الصارم حيال قضايا جدلية مختلفة".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة