لم تقف الإمارات أبداً في صفوف المتفرجين على معاناة الشعب الفلسطيني، ولم تكتف كما فعل غيرها بالشجب والإدانة والمواقف اللفظية.
منذ تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة.. تقع القضية الفلسطينية في مركز اهتمام القيادة والشعب، والذي يتابع تاريخ الأحداث التي وقعت في الأراضي الفلسطينية، يجد أن الإمارات كانت الدولة العربية الأولى التي تفزع لنجدة الفلسطينيين، والوقوف بجانبهم بصورة قوية وفعالة ومحققة لنتائج على الأرض.
قررها صريحة وواضحة صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، حفظه الله، أن «دولة الإمارات العربية المتحدة هي جزء من الوطن العربي، وقضية الشعب الفلسطيني المناضل هي قضيتنا والأرض هي أرضنا». هذه المقولة الشهيرة تعبر عن المكانة التاريخية التي تحظى بها القضية الفلسطينية في الوعي الجمعي الإماراتي، فالموقف الإماراتي تجاه القضية الفلسطينية من أقوى المواقف العربية، وأكثرها ثباتاً وانسجاماً مع الشرعية الدولية وحقوق الفلسطينيين.
لقد اتسم موقف دولة الإمارات تجاه القضية الفلسطينية دائماً بأنه موقف أفعال وليس أقوال، فدائماً يقرن القول بالفعل، بل غالباً ما كان يقدم العمل على الكلام، فلم تقف الإمارات أبداً في صفوف المتفرجين على معاناة الشعب الفلسطيني، ولم تكتف كما فعل غيرها بالشجب والإدانة والمواقف اللفظية، بل كانت دائماً في طليعة من يقدم العون للشعب الفلسطيني، ومن ينتصر دوماً لإرادته، ومن يسعى دوماً لإيصال صوته، ودعم مواقفه، وفي هذا السياق يأتي الاتفاق الأخير الموقع بين أبوظبي وتل أبيب والذي كشف جلياً عن هذه الحقيقة، بعدما أماط اللثام عن الحكمة الإماراتية التي حققت إنجازاً تاريخياً أنقذ أكثر من 30% مما تبقى من أرض فلسطين من أن يتم ضمه والاستيلاء عليه، ويفقد بذلك الفلسطينيون أهم الأراضي الخصبة، ومعظم مصادر المياه في غور الأردن.
الحكمة الإماراتية في إحياء القضية الفلسطينية وإعادتها لصدارة المشهدين الإقليمي والدولي، كانت العنوان الأبرز والهدف الأسمى للاتفاق التاريخي الذي تم توقيعه لفتح العلاقات بين أبوظبي وتل أبيب، فقد نجحت أبوظبي في تجميد عمليات الضم الإسرائيلية للأراضي الفلسطينية التي كانت ستقضي في حال تنفيذها على أي فرصة لاستئناف عملية السلام، وأسفرت الضغوط الإماراتية في استجابة إسرائيل لفتح الطريق أمام تسوية وضع الأقصى، فقد ألزم الاتفاق إسرائيل بفتح المسجد أمام المسلمين من بقاع الأرض كافة، وهو نصر تاريخي ونجاح يُضاف إلى خانة النجاحات الإماراتية في دعم قضية فلسطين وشعبها، لاسيما أن العديد من القوى السياسية في الداخل الفلسطيني وأطراف إقليمية ودولية كثيرة اعتبرت الاتفاق دليلاً على نجاح الإمارات في إعادة اختراق القضية الفلسطينية، وعودتها إلى طاولة المفاوضات بعد أن دخلت غياهب المجهول.
الاتفاق في جوهره جاء كاشفاً عن عمق نجاحات التوجهات الخارجية للسياسة الإماراتية، فالتفاهمات الجديدة بين تل أبيب وأبوظبي، تشير إلى بدء علاقات مباشرة بين اثنتين من أكبر القوى الاقتصادية في الشرق الأوسط، وهو ما قد يسهم بفعالية في النهوض بالمنطقة من خلال تحفيز النمو الاقتصادي وتعزيز الابتكار التكنولوجي، وتوثيق العلاقات بين الشعوب، وإعلاء المبادئ والقيم الإنسانية، وعلى رأسها التسامح والسلام والأخوة الإنسانية، كما سيعيد الاتفاق إعادة صياغة التحالفات والتحالفات المضادة في المنطقة لمصلحة تحالف دول الاعتدال الذي تقوده أبوظبي مع الرياض والقاهرة والمنامة في مواجهة تحالف الشر الذي تغذيه الكراهية والتطرف، وتدعمه بعض الأطراف الإقليمية التي تسعى لزعزعة أمن واستقرار المنطقة من خلال أذرعها الإعلامية ووكلائها من جماعات متطرفة وميليشيات مسلحة.
الأهم أن الاتفاق أعاد مركزية القضية الفلسطينية، ولعل نظرة فاحصة على بنود الاتفاق بين البلدين تبدو كاشفة عن ذلك، فقد غير الاتفاق من حقائق الصراع، وتجلى ذلك في تراجع إسرائيل عن خطة ضم الأراضي الفلسطينية، كما أصبحت المقدسات الإسلامية في فلسطين مفتوحة على مصراعيها أمام المواطنين الفلسطينيين وجميع العرب والمسلمين، فقد اشترطت أبوظبي قبيل الذهاب لإقامة علاقات كاملة مع إسرائيل، ضمان حرية المقدسات، ووقف الأعمال التي تمارسها إسرائيل في ساحة الأقصى وغيرها من المقدسات الإسلامية والمسيحية.
الاستجابة للمطالب الإماراتية كانت محل ترجمة سريعة في البيان الإماراتي الأميركي الإسرائيلي المشترك، فقد قال البيان «حسب خطة السلام، يجوز لجميع المسلمين أن يأتوا لزيارة المسجد الأقصى والصلاة فيه، كما ينبغي أن تظل الأماكن المقدسة الأخرى في القدس مفتوحة أمام المصلين من جميع الأديان».
هنا، يمكن القول إن الاتفاق كان نقطة فاصلة في مسار القضية الفلسطينية، فقد وضعت القيادة الإماراتية إسرائيل أمام حقائق مغايرة على الأرض، بعدما أكدت لها أن دخول إسرائيل في علاقات طبيعية مع دول المنطقة العربية يظل مرهوناً بتسوية عادلة للقضية الفلسطينية، ترتكز بالأساس على حل الدولتين. إنها لحظة صناعة سلام لا يقوى عليها إلا الشجعان، بحسب تعبير صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد.
وعلى الرغم من أن بعض الفصائل الفلسطينية كما هو متوقع سارعت بشجب الاتفاق حتى قبل أن تقرأ بنوده، إلا أن الحكمة الإماراتية في إدارة صراعات الإقليم، دأبت على غض الطرف، وعدم الانجرار في سياسات الاستقطاب والمحاور والتحالفات المدفوعة بحسابات إقليمية، والابتعاد عن سياسات الانقسام والخلافات الفلسطينية.
فتاريخياً، تمثل القضية الفلسطينية ودعمها في المجالات الإقليمية والدولية كافة، أحد محاور الاستناد في الاستراتيجية الإماراتية. كما أن الدعم الذي تقدمه دولة الإمارات يرتبط بالشعب الفلسطيني ككل، وامتد إلى مختلف المدن الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة من دون النظر للاعتبارات الإيديولوجية أو الانقسامات السياسية على الساحة الفلسطينية، بالإضافة إلى دعمها الذي لم يتوقف للسلطة الفلسطينية.
هنا، يمكن القول إن السياسة الإماراتية تجاه القضية الفلسطينية لم تكن أبداً سياسة لحظية، ولا يتم توظيفها سياسياً في استحقاقات سياسية موسمية على غرار بعض الدول التي لم تجد في فلسطين وقضيتها سوى وسيلة للابتزاز السياسي، ومجرد بيئة خصبة لرفع سقف الخطابات الدعائية وتحقيق مآرب أخرى لا علاقة لها بفلسطين وقضيتها العادلة.
على النقيض من ذلك، كانت السياسة الإماراتية تجاه القضية الفلسطينية دوماً ما تقرن القول بالعمل، وتجلى ذلك على سبيل المثال في الكلمة التي ألقتها مندوبة دولة الإمارات في الأمم المتحدة لانا نسيبة في مجلس الأمن الدولي في مايو 2018، حيث اعتبرت الإمارات الحصار المفروض على قطاع غزة منذ عشر سنوات عقاباً جماعياً غير مشروع على المدنيين، مطالبة المجتمع الدولي بالقيام بمسؤولياته، والتحرك لوقف تلك المجزرة، واتخاذ الإجراءات اللازمة لوقف العنف الإسرائيلي.
في الختام، يبقى القول إن أية محاولة من أي طرف له أجندته الخاصة ومصالحه الضيقة التي يستغل القضية الفلسطينية لتمريرها، لن يفلح في تقزيم الدور الإماراتي أو النيل منه، كما ستذهب جهوده أدراج الرياح إذا ما حاول تخريب علاقة الإمارات بشعب فلسطين، فما أبعدها المسافة بين السياسات الواقعية البناءة والشجاعة والجريئة التي تعيد ترتيب الأحداث وتصنع التاريخ وتضع المستقبل نصب عينها، وبين السياسات الشعبوية والخطابات البائسة التي لم تنجز للقضية الفلسطينية إلا الخراب والدمار مصحوباً بمخزون وافر من الشعارات الرنانة والخطب الجوفاء والدعاية الزائفة.
وفي النهاية، تبقى التحية ويبقى النداء، أما التحية الواجبة فهي إلى من يستحقها، صانع هذا الحدث التاريخي، رجل سلام الشجعان، سيدي صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد الذي يثبت يوماً بعد يوم أن شجاعته ليس لها حدود، وأن بحر حكمته ليس له شطآن، وأما النداء فهو إلى لجنة نوبل للسلام بأن تضع نصب عينيها وهي بصدد اختيار الفائز بجائزتها، صانع هذا الحدث التاريخي الذي قد يؤسس لسلام دائم وعادل، وينهي صراعاً طال أمده في منطقة أعيتها الحروب، وأنهكتها النزاعات والانقسامات.
نقلا عن الاتحاد الإماراتية
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة