دولة الإمارات تكتب صفحات مشرقة وناصعة في هذا الشهر بما تحمله الدلالات من خير ومن تجرؤ حقيقي على الأمل الذي صاحبه العمل.
اعتاد العرب ومنذ أربعة عقود إطلاق صفة الأسود على شهر سبتمبر/أيلول إذ يقال "أيلول الأسود"، في إشارة إلى صراع الأشقاء الفلسطينيين والأردنيين عام 1970، في معارك ما كان لها أن تحدث أبدا.
رحلة المنصوري إلى الفضاء نقطة فاصلة في تاريخ العالم العربي المعاصر، تنمي لديه احتمالات النهوض العلمي الفضائي، ورسم مستقبل جديد للمنطقة والأمة.. إنه أيلول الأبيض ولا شك.
اليوم تأتي دولة الإمارات لتغير من هذا الوصف، وتكتب صفحات مشرقة وناصعة في هذا الشهر لتجعل منه أيلول الأبيض، بما تحمله الدلالات من خير ومن تجرؤ حقيقي على الأمل الذي صاحبه العمل.
في هذا الشهر وبالتحديد في الخامس والعشرين منه سوف يشهد العالم صعود أول رائد فضاء إماراتي "هزاع المنصوري"، إلى الفضاء، ليدشن بذلك حقبة من أحلام الإمارات الساعية إلى استيطان الفضاء، وتحقيق حلم البشرية بإقامة موقع وموضع للإنسان خارج الأرض لا للزيارة والتجارب العلمية فقط، لكن ربما للإقامة كما الحال في رؤية الإمارات لإقامة مستوطنة مأهولة بالبشر على سطح المريخ عام 2070 أي في ذكرى مرور مئة عام على إعلان مولد الاتحاد الإماراتي في شكله الحداثي.
أول ما يستلفت في شعار رحلة المنصوري الأولى إلى الفضاء هو الشعار "طموح زايد"، فكيف لنا أن نقرأ المعنى والمبنى في هذا الشعار؟
يمكن القطع بأن اسم المغفور له بإذن الله الشيخ زايد الأب المؤسس هو الأصل في كافة الرؤى التي تسابق بها الإمارات الأحداث في وقتنا المعاصر، فقد كان رحمه الله سباقا في عمل الخير، وبنفس القدر رائدا تنويريا استشرف المستقبل من بعيد، وبذلك تجاوزت نظرته أقرانه، وتطلعت نفسه بكل ما هو مثير ومفيد وخلاق لشعبه بداية ولعالمه العربي ثانية.
باكرا جدا وفي أوائل سبعينيات القرن المنصرم قدر للفريق الأمريكي الذي استطاع الهبوط على القمر من علماء ورواد فضاء أن يزور الإمارات، ويومها كانت زيارة فريق ناسا منطلقة لمرحلة تأسيس الإمارات لقطاع الفضاء الوطني.
ولم يكن قد مر عقد من الزمان على تأسيس دولة الإمارات في شكلها الاتحادي الحديث، عندما تم إنشاء "القبة السماوية" عام 1980 بإمارة الشارقة، ورغم هذا العمر المبكر عدت القبة مختبراً علمياً وورشة عمل للتطبيقات الفلكية وعلوم الملاحة إلى جانب عملها الأساسي في إنتاج الدراسات الملاحية.
كانت رؤية زايد عند التقائه فريق أبولو عام 1976، بداية مشوار من العزيمة والإصرار والحماس لبلورة حلم إماراتي، سيقدر له أن ينمو ويزدهر في أعلى عليين، ليطال عنان السماء، عبر خبرات بشرية إماراتية تعمل في حقل الفضاء من المتخصصين في العلوم الهندسية والجيولوجيا والبيولوجيا وغيرها، وما يبذلونه من جهود لإنتاج أدق تفاصيل مشروع "مسبار الأمل"، والذي أنجز حتى الساعة بنسبة 85%.
يعن للمرء أن يتساءل: "ما الذي ترمي إليه الإمارات من خلال مثل هذا البرنامج الخلاق لارتياد الفضاء؟"
الشاهد أن أهداف الإمارات تتضح جلية عبر كافة مشروعاتها التقدمية على الأرض أو في الفضاء، والبداية عندها من الإنسان والذي هو القضية وهو الحل في ذات الوقت، ودائما وأبدا يبقى لديها الاستثمار في البشر هو الأساس الذي يبنى لأجل خدمته الحجر.
في هذا السياق، تبقى قضية إعداد رواد الفضاء وبناء كوادر علمية قادرة على بلورة برنامج فضائي إماراتي، ومن ثم وضع الأهداف الكبرى مثل إنشاء أول مدينة علمية لمحاكاة الحياة على كوكب المريخ، أهداف متتالية تأخذ بيد شباب الإمارات الواعد والصاعد، لتجعل منهم جيوش الأمل، عبر التحليق بالآفاق والاقتراب من النجوم، لا من خلال الأشعار أو الأحلام المخملية، بل من خلال تجارب يقوم بها المنصوري ومن سيأتي بعده من شباب الإمارات في الفضاء الخارجي.
لم تعرف الإمارات طوال تاريخها البراجماتية كطريق لها، بل كان ديدنها منذ زمن زايد الأب هو الشراكة الإنسانية الفاعلة والمؤثرة والقادرة على خدمة العالم العربي برمته، ولهذا فإن أحد أهداف برنامجها الفضائي هو إطلاق البرنامج العربي لاستكشاف الفضاء، وهو برنامج لنقل المعرفة والخبرات في علوم وتقنيات الفضاء مع جامعات ومؤسسات الدول العربية للاستفادة من أبرز العقول العربية في هذا المجال، وإنشاء منصة بيانات علماء الفضاء العرب.
هل باتت برامج الفضاء في عالمنا المعاصر فرض عين يتوجب على من يرغب في أن يجد له موطئ قدم على الأرض أن يحجز مكانه في الفضاء؟
الشاهد أن المتابع الجيد لتطورات المشهد الفضائي يرصد عودة وسباقا محموما بين كافة القوى الدولية الكبرى من أجل بسط السيطرة على الفضاء، ويبدو أن صناع الاستراتيجيات الكبرى حول العالم، لم تعد مسألة الهيمنة على البحار والمحيطات تكفيهم، كإحدى أوراق القوة ضمن الصراع الأممي العائد بقوة، بل بات كذلك السباق نحو الفضاء بدوره قضية الساعة.
هنا نرصد عودة برنامج حرب الكواكب الأمريكي مرة أخرى، ومن جانب آخر فقد استخرج الروس برنامج السوفييت القديم المعروف بـ"درع الفضاء"، أما الصينيون يشاغلهم ويشاغبهم الجانب المظلم من القمر، ذاك الذي لم يقدر لأحد إرسال مركبات فضائية إليه، بينما الهند تسعى لأن تكون أول من يهبط على سطح المريخ.
لم يعد الحديث عن برامج الفضاء شأنا من شؤون الرفاهية كما يخيل للبعض، بل قضية جوهرية تتعلق بمستقبل الجنس البشري، كيف ذلك؟
الثابت أن مخاوف عديدة تنتاب البشرية بل ربما تجتاحها في زماننا المعاصر، من فناء النوع الإنساني، وخلف الباب هناك قضيتان كارثيتان يمكنهما أن يمحيا ذكر الإنسانية برمتها:
المشهد الأول موصول بالتهديد الإيكولوجي، أي بالمناخ الذي يكاد يدمر الكرة الأرضية، وبخاصة ظاهرة الاحتباس الحراري وذوبان الأقطاب الجليدية.
فيما المشهد الآخر فله علاقة جذرية بقضية إعادة التسلح النووي مرة أخرى وبصورة أكثر ضرراً من تلك التي عرفها العالم أيام الحرب الباردة.
من هذا المنطلق يكاد أن يضحى الخيال المتمثل في البحث عن موقع آخر لحياة البشرية خارج الكرة الأرضية ضربا من ضروب الواقع الذي يسعى العلماء في تحقيقه.
خذ إليك ما كتبه "لويس هالي" من وزارة الخارجية الأمريكية في مجلة العلاقات الخارجية الأمريكية الشهيرة (FP) في صيف عام 1980 يقول: "إن استيطان الفضاء سينقذ البشرية في حال قيام حرب عالمية نووية".
أما العالم "بول ديفيز"، فيؤيد وجهة النظر القائلة إنه لو حدثت كارثة كوكبية تهدد بقاء الإنسان على الأرض، فإن مستوطنة فضائية واحدة، قد تقوم بإعادة استيطان الأرض، والحفاظ على الحضارة البشرية.
فيما اقترح عالم الكيمياء الحيوية "روبرت شابيرو"، مشروعاً عنوانه "تحالف إنقاذ الحضارة يهدف لإرساء احتياطي للحياة البشرية خارج الأرض، بحيث يمكن في حالة فناء الحضارة البشرية على الأرض، أن يتم إعادة غزوها وإعمارها من الفضاء.
رحلة المنصوري إلى الفضاء نقطة فاصلة في تاريخ العالم العربي المعاصر، تنمي لديه احتمالات النهوض العلمي الفضائي، ورسم مستقبل جديد للمنطقة والأمة.. إنه أيلول الأبيض ولا شك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة