حين يتحدث الشيخ محمد بن زايد عن تاريخية هذه الزيارة فهو مصيب فعلا وقولا، سيما وأنها الزيارة الأولى من نوعها.
لا تنفك الإمارات وقيادتها وشعبها تدهش العالم يوما تلو الآخر، فالخطوات الواثقة والسريعة التي تمضي بها تجعل العالم ينظر إليها نظرة ملؤها التقدير والإعجاب الكبيرين، فطموحها بالفعل يعانق السماء وأحلامها في نشر الوئام والسلام حول الكرة الأرضية غير محدود.
ضمن رؤية الإمارات التسامحية والتصالحية مع شعوب العالم وأديانه وثقافاته المختلفة، تأتي الأخبار الخاصة بزيارة البابا فرنسيس بابا روما وسيد حاضرة الفاتيكان إلى دولة الامارات العربية المتحدة، في الفترة ما بين 3 و5 فبراير/ شباط القادم، وذلك للمشاركة في لقاء حوار عالمي يلتئم تحت سماوات إمارات الخير حول "الأخوة الإنسانية".
حين يتحدث الشيخ محمد بن زايد عن تاريخية هذه الزيارة فهو مصيب فعلا وقولا، سيما وأنها الزيارة الأولى من نوعها، والتي تُعظّم فرص الحوار والتعايش السلمي بين الشعوب وتعكس وجه الإمارات الخلاق الساعي لادزهار السلام كغاية تتحقق بالتآلف وتقبل الآخر.
يحمل الكرسي الرسولي "الفاتيكان" للإمارات مشاعر دافئة ونظرة عالية من الاحترام والتقدير، فقد أشاد الحَبر الأعظم البابا فرنسيس، العام الماضي، وفي لقاء جمع دبلوماسيي العالم لديه بالسياسة المنفتحة والمتسامحة التي تنتهجها الإمارات، واعتبرها مثالا يُحتذَى وتنبع من التسامح واحترام الغير وحرية ممارسة الأديان.
والحقيقة أن البابا فرنسيس لم يكن اول الباباوات الذين شهدوا لواقع حال الامارات الانساني والايماني والوجداني، فقد سبقه إلى ذلك البابا الشرفي بندكتوس السادس عشر غداة لقائه مع وفد دبلوماسي إماراتي في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، وشهد بدوره لما تقوم به الإمارات من رعاية خلاقة للأقليات المسيحية التي تعيش على أرض الإمارات.
بالقدر نفسه، تنظر القيادة الإماراتية إلى البابا الروماني الكاثوليكي، حيث ينظر صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد إلى الزيارة كونها تعمق الاحترام المتبادل وترسخ الحوار بين أتباع الأديان، وتمضي في طريق تعزيز السلم والسلام والأخوة بين جميع البشر، فيما اعتبر الشيخ محمد بن زايد البابا رمزا من رموز السلام والتسامح وتعزيز روابط الأخوة الإنسانية.
تستدعي الزيارة طرح بعض الأسئلة المعرفية عن الضيف الكبير، فمن هو بابا الفاتيكان بشكل عام، وماذا عن فرنسيس بنوع خاص؟
يحتاج الجواب لمؤلفات بعينها، لكن بدون اختصار مُخِلّ يبقى البابا الروماني صاحب الرداء الأبيض قيمة إنسانية وتاريخية كبيرة في مسيرة الحياة الإنسانية ويبلغ عدد الباباوات الرومان الكاثوليك نحو 265 بابا، ويقف على رأس الكنيسة الكاثوليكية وتراتبيتها التاريخية منذ ألفي عام، وتسليمها الهيراركي الذي لم ينقطع رغم أوقات الضعف التي كانت تليها دوما فترات ازدهار روحي وأدبي، أخلاقي وإنساني.
نفوذ بابا روما غير محدود، ويفوق نفوذ أي دولة عظمى حول العالم، ومرد ذلك لا يعود إلى قدرات وجيوش عسكرية، بل نفوذ إيماني وإنساني حول قارات الأرض الست التي ينتشر فيها كاثوليك العالم، ولسان حالهم أبدا ودوما يقول: "نحب البابا كائنا من يكون"، أما الراغبون في معرفة قدرة حاضرة الفاتيكان الحقيقية حول العالم، ومدى النفوذ الفعلي للبابا فعليهم مراجعة العديد من المؤلفات العالمية الكبرى، ومن بينها كتاب "حروب الأشباح.. السجل الخفي للسي.آي .أيه، لأفغانستان، ولبن لادن" لمؤلفه الأمريكي ستيف كول، أو كتاب " جواسيس جدعون" لصاحبه البريطاني جوردن توماس.
والشاهد أن البابا الذي يحل ضيفا على الإمارات، الشهر بعد القادم، هو أول بابا يتم انتخابه من قبل مجمع الكرادلة المخول لهم انتخاب بابا روما من منطقة تعد حاضنة بشرية لكاثوليك العالم، أي أمريكا اللاتينية.
ولد "خورخي ماريو بيرجوليو"، الذي سيضحي البابا فرنسيس، في السابع عشر من ديسمبر من عام 1936 لأسرة تعود جذورها إلى مهاجر إيطالي، وربما لهذا وجدناه دائما ممتلئا بالشفقة والحنان على المهاجرين الذين ألقتهم معاثر الحياة على شطآن أوروبا السنوات الماضية.
جرت العادة أن يغير الكاردينال المختار للبابوية اسمه ويختار اسما لحبريته، وكل مختار لهذا المنصب لديه الحرية الكاملة في اختيار اسم يكون الأقرب لقلبه والأنفع والأرفع لحبريته، وقد اختار الكاردينال خورخي رئيس أساقفة بيونس ايرس اسم فرنسيس، والسؤال لماذا؟
حتى لا نرهق القارئ غير المتخصص بالدخول في عمق التفاصيل، فإن الاختيار جاء تيمنا بالصوفي الإيطالي الزاهد فرنسيس ألاسيزي من أعمال القرن الثالث عشر الميلادي، والذي سيضحي رمزا للسلام حول العالم عامة، وفي الشرق الأوسط والعالم العربي بنوع خاص، والسبب في ذلك ما تحفظه لنا سير التاريخ من لقائه الخلاق مع الملك الكامل الأيوبي في مصر في زمن الحروب التي أطلق عليها العرب حروب الفرنجة وأسماها الغرب الصليبية، والتي رفضها فرنسيس، وحضر إلى مدينة دمياط المصرية عام 1219 لمقابلة السلطان، ودار بينهما حوار بقي نبراسا لتعايش الإنسان وحوار الأديان على مدى الأزمان.
المثير الذي لا يعرفه الكثيرون هو أن "الكاردينال خورخيو" ينتمي إلى جماعة رهبانية أخرى يطلق عليها باللغة اللاتينية Societas Iesu، وبالعربية الرهبنة اليسوعية، ومعروف أن مؤسس هذه الجماعة الكاثوليكية، ويدعى "أغناطيوس دي لويلا" كان فارسا أسبانيا، قبل أن يصير أبا لرهبنة كبيرة وفاعلة لأقصى حد ومد في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية.. السؤال لماذا اختار البابا اسم رجل آخر غير مؤسس جماعته؟
أغلب الظن أن الاختيار كان بشيرا ونذيرا بملامح ومعالم حبرية البابا الجديد، فقد بدا عليه الزهد والتصوف منذ أول لحظات ارتقاء السدة البطرسية، وحتى الساعة يرفض أن يرتدي الصليب الذهب على صدره ويحتفظ بصليبه القديم من الفضة، ولم يسكن القصر الرسولي المخصص عادة لسكنى الباباوات، ولا يزال يعيش في فندق "سانتا مارتا" على أطراف الفاتيكان في حجرتين صغيرتين متواضعتين، وقصة فرنسيس الفقير وراء جدران الفاتيكان في حاجة بدورها لكتابات مطولة.
في إعلان الفاتيكان عن زيارة البابا للإمارات تخصيص لعنوان الرحلة وهو "اجعلني إلهي، أداة للسلام"، وهي العبارة المشهورة لفرنسيس ألاسيزي
Laudato sii o mio signore، وقد كانت أول عبارة فاه بها غداة انتخابه حَبرا أعظم في 13 مارس 2013، ويذهب الكرسي الرسولي إلى أن هذا الشعار يعبر عن الهدف الرئيس من الرحلة إلى الإمارات، ومن أجل أن يحل السلام في قلوب كل الأشخاص ذوي النية الحسنة، ويأخذ شعار الرحلة حمامة ملونة بألوان علمي الإمارات والفاتيكان تحمل غصن زيتون وترمز للبابا كرسول للسلام في أرض بات قادتها صناع سلام يخصصون حاضرها ومستقبلها لإفشاء السلام حول الكرة الأرضية، وليس في منطقة ساخنة ملتهبة فقط.
حين يتحدث الشيخ محمد بن زايد عن تاريخية هذه الزيارة فهو مصيب فعلا وقولا، سيما وأنها الزيارة الأولى من نوعها التي تعظم فرص الحوار والتعايش السلمي بين الشعوب، وتعكس وجه الإمارات الخلاق الساعي لادزهار السلام كغاية تتحقق بالتآلف وتقبل الآخر.
فصول الرحلة والحديث عنها في المبتدأ، وفي الخبر كلام ورؤى تحليلية وتاريخية كثيرة.. إلى اللقاء.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة