حين تتجسّد القيادة في رؤية، والرؤية في عمل، فإننا أمام مدرسة فكرية تُعيد صياغة مفهوم التنمية الإنسانية.
وقد تجلّت هذه المدرسة في حضور الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس دولة الإمارات، جلسة «الأجندة الوطنية لنمو الأسرة 2031» التي عُقدت ضمن الاجتماعات السنوية لحكومة الإمارات لعام 2025 في أبوظبي، بمشاركة قيادات ومسؤولين من مختلف الجهات الاتحادية والمحلية.
فخلال الجلسة، وجّه بتخصيص عام 2026 ليكون «عام الأسرة»، تعزيزاً لأهداف الأجندة الوطنية واستمراراً لنهج الدولة في تمكين المجتمع وتعزيز تماسكه، تأكيداً على أن الأسرة الإماراتية هي نواة المجتمع وأساس التنمية المستدامة.
ويأتي هذا المشروع امتداداً للرؤية التي أطلق من خلالها الشيخ محمد بن زايد آل نهيان «عام 2025 – عام المجتمع» تحت شعار «يداً بيد»، تجسيداً لفكر القيادة التي ترى أن بناء الإنسان هو أساس التنمية، وأن المجتمع المتكامل هو طريق الازدهار.
وفي هذا المقال، سنتناول المحاور التالية التي تُجسّد الرؤية الاجتماعية والإنسانية لقيادة الدولة:
(1) الأجندة الوطنية لنمو الأسرة 2031، (2) رمزية الأعياد السنوية عند الأمم والحكومات المعاصرة، (3) الأسرة كمصدر للقيم، (4) الإنسان محور التنمية، (5) نمو المواليد كقضية وجودية وأمنية، (6) تأثير التكنولوجيا على التواصل الأسري، (7) أهمية الصحة النفسية، و(8) العمل التطوعي كقيمة إنسانية خالدة.
الأجندة الوطنية لنمو الأسرة 2031
تُعد الأجندة الوطنية لنمو الأسرة 2031 خطة وطنية شاملة تهدف إلى تعزيز نمو واستقرار الأسرة الإماراتية بوصفها حجر الأساس في بناء المجتمع. وترتكز على ثلاث ركائز رئيسية: تعزيز هوية الأسرة وترسيخ قيمها في المجتمع، وتهيئة بيئة داعمة لتأسيس الأسرة ونموها على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والصحية، وتمكين الأسرة ودعم العلاقات الأسرية بما يشجع الزواج والإنجاب.
كما تعتمد الأجندة على مسارات تنفيذية تشمل تطوير السياسات الداعمة، ومعالجة التحديات السلوكية، وتعزيز الصحة الإنجابية. وتهدف بحلول عام 2031 إلى رفع معدلات الزواج والمواليد وتعزيز التماسك والقيم الأسرية في المجتمع الإماراتي.
رمزية الأعوام.. فلسفة تنموية متجددة
منذ فجر التاريخ، ارتبطت فكرة الاحتفاء بالأيام والأعوام الخاصة بترسيخ القيم والمعاني الكبرى، مثل الأعياد الدينية والوطنية، وأيام تكريم العمال والعلماء والأبطال، ويوم الشهيد وغيرها من الأعياد مثل اليوم الوطني. وفي العصر الحديث، أصبحت تسمية الأعوام أداة حضارية تعبّر عن توجهات الدول وأولوياتها السياسية في دعم القضايا الإنسانية والاجتماعية والتعليمية والصحية لشعوبها ومجتمعاتها. وهكذا، تحوّل الزمن إلى حاملٍ للمعنى، والسنة إلى مشروع وطني للتطوير والتحفيز.
الأسرة.. نواة المجتمع ومصدر القيم
يقول المفكر الروسي ليو تولستوي: "العائلة إما أن تصنع إنساناً أو كومة عقد".
ويؤكد الفيلسوف الألماني نيتشه: "لا صلاح لأمة فسدت منابع أطفالها".
فالأسرة ليست مجرد كيان اجتماعي، بل هي المنشأ الأول للأخلاق والانتماء والتوازن النفسي، ومصدر القوة الحقيقية للأمم. إن تماسك الأسرة اليوم يمثل حجر الزاوية في استقرار المجتمعات، إذ إن قضاء الوقت مع العائلة، والتواصل الإنساني، والعلاقات الصحية داخل المنزل تُعدّ من أهم مقومات الصحة النفسية والاجتماعية. فالأسرة المتماسكة تُنتج جيلاً واثقاً، متوازناً، وقادراً على الإسهام في التنمية، بينما يؤدي تفككها إلى هشاشة في القيم، واضطراب في الهوية، وضعف في الانتماء. إن دفء وتماسك العلاقة الأسرية هو الذي يصنع الإنسان المتفائل والمتوازن، القادر على تخطي الصعوبات والتحديات، كما يستطيع صنع الإبداع والابتكار وإحداث أثر إيجابي في المجتمع والعالم.
الإنسان محور التنمية واستدامتها
تُعد المجتمعات البشرية الفلك الذي تدور حوله جميع العلاقات الإنسانية والطبيعية، ومنها تنبثق غاية التنمية المستدامة. فكل تقدم حقيقي يبدأ من الإنسان، وكل نهضة تُبنى على التعليم وتنمية المهارات والقدرات إلى جانب أهمية دعم الفئات التي تحتاج إلى برامج خاصة مثل الأطفال، وأصحاب الهمم، وكبار السن، والتي أمست في صميم الاهتمام الحكومي والإنساني؛ حيث ترتكز الرؤية الإماراتية على مبدأ أن الإنسان هو محور التنمية وغايتها، فكل نهضة تبدأ من التعليم وتنمية المهارات، وكل مجتمع مزدهر يقوم على العدالة والمشاركة والتمكين. وقد أرست الإمارات سياسات رائدة تراعي حقوق الأطفال، وأصحاب الهمم، وكبار السن، انسجاماً مع المواثيق الدولية التي تؤكد على الدمج وتكافؤ الفرص والمشاركة المجتمعية.
نمو المواليد.. نغمة الحياة واستمرارها
لقد أصبحت ضوضاء الأطفال التي كنا نعدها يوماً إزعاجاً، حلماً تتمنى الدول سماعه، على سبيل المثال، تقول ألمانيا على إعلامها الرسمي، بأنها تفتقر لأصوات الأطفال في المطاعم والمقاهي والأسواق، بعد أن انخفض معدل المواليد إلى حدٍ بات يُهدد الأمن القومي. ولهذا، أطلقت حملات توعية وحوافز مالية وإجازات للأمهات والآباء لتشجيع الإنجاب. ومثلها دولٌ كثيرة تسعى إلى استعادة صرخات الحياة الأولى، لأن هرم الأعمار السكاني هو مرآة قوة الأمم.
فحين تمتلئ قاعدة الهرم بالأطفال، تزدهر الدول بثروتها البشرية والاقتصادية والأمنية. أما انخفاض الخصوبة فلا يرتبط بعلل جسدية، بل بمتغيرات ثقافية وأيديولوجية واقتصادية؛ من فكرة الحرية الفردية إلى سياسات تحديد النسل التي تبنّتها دول مثل الصين قبل أن تتراجع عنها لاحقاً.
وفي أوروبا، تحاول الدنمارك كسر نمط الفردية، معلنة أن «الإنجاب أصبح من أجل الوطن»، بينما يحث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شعبه على إنجاب ثلاثة أطفال فأكثر، مانحاً وسام «الأم البطلة» لمن تنجب عشرة أطفال، ووسام «المجد الأبوي» للأسر الكبيرة. حتى على مستوى الرموز العالمية، يطلّ إيلون ماسك محتفلاً بطفله الحادي عشر، مؤكداً أن تعدد الأبناء هو مساهمة في بقاء البشرية واستمرار الحضارة.
إن أول صرخة حياة عند الولادة لا تُعلن فقط قدوم طفلٍ جديد، بل تجدد دورة الحياة واستمرار الأمم، وصوتٌ للأمن والاستقرار والنهضة. وفي الإمارات، تشجع الأجندة الوطنية على الزواج والإنجاب من خلال سياسات اجتماعية ومالية وصحية محفزة وداعمة، انطلاقاً من الإيمان بأن كل ولادة جديدة هي تجديد لدورة الحياة واستمرار لقوة الأمة والمجتمع.
التكنولوجيا.. بين الاتصال والعزلة
حملت الطفرة الرقمية للعالم فوائد لا تُعد في مجالات التعليم والصناعة والخدمات والتواصل، لكنها أفرزت أيضاً تحديات اجتماعية جديدة، أبرزها الانعزال عن الواقع المادي وضعف التواصل الأسري. وهنا تبرز الحاجة إلى تشريعات وتوعية تعيد التوازن بين العالم الرقمي والعلاقات الواقعية، وتحفّز على التفاعل الحقيقي داخل الأسرة والمجتمع، إلى جانب تعزيز القوانين الخاصة بالجرائم الإلكترونية بما يضمن العدالة والحماية.
الصحة النفسية.. عماد المجتمع المتوازن
تعد الصحة النفسية والبدنية من ركائز جودة الحياة، وممارسة الرياضة والنشاط البدني وسيلة فعّالة للتفاعل الاجتماعي وتحسين المزاج العام. لقد باتت المساحات العامة والحدائق والمسارات الرياضية من مؤشرات الرضا والسعادة في المجتمعات الحديثة، حيث تلتقي القيم الصحية بالاجتماعية في هدف واحد: الإنسان السعيد المنتج.
العمل التطوعي.. قيمة إنسانية خالدة
يشكل العمل التطوعي في مختلف المجتمعات قيمة إنسانية تُمارس بدافع الإيثار والمسؤولية، وتزداد أهميته في فترات الأزمات، حين تُختبر الإنسانية والوطنية في أبهى صورها. ومع التطلّع نحو المستقبل، تتضح الحاجة إلى المعرفة والهوية وغرس القيم الأصيلة في الأجيال الجديدة، مثل قيم التسامح، والعطاء، وتماسك الأسرة، والإحساس بالانتماء، وهي القيم التي تُشكّل روح الإمارات الحديثة.
خاتمة:
من «عام المجتمع» إلى «عام الأسرة»، تسير الإمارات في رحلة وعي متواصلة تصنع من الزمن مشروعاً أخلاقياً وإنسانياً. فالأسرة ليست مجرد بيتٍ من جدران، بل فضاءٌ للمعنى ومحرابٌ للرحمة ومصنعٌ للأمل والاستمرار. وحين تُصان الأسرة، يُصان جوهر الإنسان، وحين يُكرَّم الإنسان، تزدهر الأوطان وتخلد الحضارات، إنها رؤية الشيخ محمد بن زايد آل نهيان؛ رؤية تؤمن بأن التنمية ليست أرقاماً ومؤشرات، بل رحلة في الوعي نحو إنسان أكثر رحمة، ومجتمع أكثر تماسكاً ونمواً، ووطنٍ أكثر إشراقاً وعدلاً وتقدماً وإنسانية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة