مَن يستطيع منا أن ينسى ذلك اليوم، من يستطيع ألا يتذكره، نحن الذين تفتح عيوننا على الدنيا واسم زايد ملء السمع.
من يستطيع منا أن ينسى ذلك اليوم، من يستطيع ألا يتذكره، نحن الذين تفتح عيوننا على الدنيا واسم زايد ملء السمع، وصورة زايد ملء البصر، والدنيا تضج حياة بوجوده بيننا؟ كيف لنا أن نتصور أنه قد غادر دنيانا وما عاد بيننا ذلك الإنسان الذي نستمد منه العزم والأمل في الحياة؟
تفاصيل يوم التاسع عشر من شهر رمضان 1425 هجريا ما زالت ماثلة أمام العيان، ومن غادرنا في ذلك اليوم ما زال مقيما في الوجدان، رغم مرور أربعة عشر عاما على الرحيل الصعب .
كانت محنة عظيمة، وكان اختباراً كبيراً لصبر أبناء دولة الإمارات، وقدرتهم على تجاوز الصدمة. فالشيخ زايد، عليه رحمة الله، لم يكن حاكماً ولا رئيساً ولا زعيماً سياسياً فقط، وإنما كان والداً للجميع، جاء في زمن كانت فيه المنطقة تشهد تحولات كبرى، وتستعد للانتقال من عصر إلى عصر
ونظرة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة، إلى الجثمان المسجى على أرض مسجد الشيخ سلطان بن زايد الأول ما زالت مؤثرة فينا؛ تلك النظرة التي اختصرت من الكلام الكثير، وجسدت معاني الفقد الكبير، وعبرت عن مشاعر أبناء الإمارات كلهم نحو والدهم الذي كانوا يودعونه، وهم غير مصدقين الخبر، رغم إيمانهم بالقضاء والقدر، وتسليمهم بمشيئة الله التي لا تستثني أحداً من البشر.
كانت شمس التاسع عشر من شهر رمضان تأذن بالمغيب، وكانت الأنباء تتواتر عن أن ثمة خبراً جللاً يوشك أن يتم الإعلان عنه، وكانت قلوب الصائمين، ليس في دولة الإمارات فقط، وإنما في العالم أجمع، تدعو الله ألا يكون هذا الخبر صحيحاً.
لكن سهم القدر كان قد نفذ، وجاء في مساء ذلك اليوم النبأ العظيم، معلنا رحيل الوالد الكبير والباني المؤسس، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، عليه رحمة الله، ليعم الحزن أرجاء دولة الإمارات وأنحاء الكرة الأرضية كلها، لأن زايد، عليه رحمة الله، لم يكن زعيم الإماراتيين وحدهم، وإنما كان زعيم الإنسانية كلها، بما سطره، عليه رحمة الله، من أعمال ستبقى خالدة، منها ما عرفنا تفاصيله ومنها ما لم نعرف.
كانت محنة عظيمة، وكان اختباراً كبيراً لصبر أبناء دولة الإمارات، وقدرتهم على تجاوز الصدمة. فالشيخ زايد، عليه رحمة الله، لم يكن حاكماً ولا رئيساً ولا زعيماً سياسياً فقط، وإنما كان والداً للجميع، جاء في زمن كانت فيه المنطقة تشهد تحولات كبرى، وتستعد للانتقال من عصر إلى عصر.
فقد كان الاحتلال البريطاني يعتزم الرحيل بعد أن تغيرت الظروف والمصالح التي دفعته إلى السيطرة على المنطقة التي كانت الإمارات تقع ضمن دائرتها، وكانت الصورة ضبابية أمام الجميع، سوى عدد محدود من الحكام، كان على رأسهم المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، الذي هيأ الله له أن يشاركه أفكاره وهمومه رجل حكيم مثله؛ هو الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، حاكم دبي وقتها عليه رحمة الله، فكان اتحادهما نواة لقيام هذه الدولة المباركة، وانضمام بقية الإمارات إليها، ليتشكل منها اتحاد قوي، هو اليوم التجربة الوحدوية العربية الوحيدة التي لم تتعرض للفشل والانتكاس في العصر الحديث، بل إنها الوحيدة التي تثبت يوماً بعد يوم أنها ماضية نحو الأفضل، والأقوى، والأكثر رسوخاً من بين كل التجارب الوحدوية في الوطن العربي.
ولأن شعب دولة الإمارات وقادته لم يتعودوا أن يستسلموا للحزن والمحن، فقد قررت القيادة أن تحول هذا اليوم إلى يوم للعمل الإنساني يحمل اسم زايد، عليه رحمة الله، إحياءً لذكرى هذا القائد العظيم، وعرفاناً بدوره في تأسيس مسيرة العطاء الإنساني في دولة الإمارات؛ هذه المسيرة التي بدأت على يديه الكريمتين، واستمرت طوال فترة حياته، وتواصلت بعد رحيله على أيدي أبنائه الكرام البررة، الذين تربوا في مدرسة زايد الخير، عليه رحمة الله، وتعلموا دروسهم الأولى في هذه المدرسة، وتشربوا نهجه القويم الذي نجده في أقواله وأفعاله، وفيما تركه لنا من إرث إنساني سوف يبقى رصيداً لا يفنى، ومعيناً لا ينضب، فقليل من الذين يفارقون الحياة بأبدانهم تظل أرواحهم مصدر إشعاع وإلهام للأحياء، ومن هؤلاء كان الشيخ زايد، عليه رحمة الله.
يقول، عليه رحمة الله، في مقابلة أجرتها معه مجلة المصور المصرية، ونشرتها يوم الثاني من ديسمبر/كانون الأول عام 1971: «هوايتي الشخصية شيء واحد؛ هو أن أغرس وأبني وأجني الثمار.. والثمار لا تكون لي أنا شخصياً، وإنما للمجتمع الذي نحن فيه».
لذلك فإننا حين ننظر إلى حياة الشيخ زايد، عليه رحمة الله، نجدها سلسلة متصلة من العطاء والغرس والبناء، وحين ننظر إلى الثمار التي جُنيت من هذا الغرس في حياته، وما زالت تُجنى حتى اليوم، نجدها قد عمّت المجتمع الإنساني كله.
ولهذا كان اختيار اسم «يوم زايد للعمل الإنساني» لليوم الذي رحل فيه عن دنيانا زايد، عليه رحمة الله، اختياراً موفقاً، لأن صفات وأسماء كثيرة يمكن أن تُطلق على الشيخ زايد، عليه رحمة الله، لكن صفة العطاء الإنساني هي الأكثر انطباقاً عليه، طيب الله ثراه، فليس ثمة زعيم في عصرنا هذا أعطى مثلما أعطى الشيخ زايد، عليه رحمة الله، وليس ثمة إنسان أحس بهموم غيره مثلما أحس الشيخ زايد، عليه رحمة الله، بهموم الناس في كل مكان، فبذل بسخاء، وامتد بذله إلى غير البشر ليشمل المخلوقات كلها، فأنشأ المحميات الطبيعية للحيوانات والطيور، ووفر لها العيش الهانئ الكريم.
رحم الله الشيخ زايد رحمة واسعة، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة، وأعاننا على الوفاء له مثلما كان وفيا لوطنه وشعبه وأمته.
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة