فرضت حدة الأزمة الأوكرانية-الروسية وتعقيداتها الإقليمية والدولية تصورات متضاربة وحالة من اللا يقين في مقاربات المتابعين والمراقبين بشأن مآلاتها سياسيا وعسكريا وحيال شكل وطبيعة العلاقات الدولية مستقبلا.
ورغم وضوح الأهداف والدوافع لدى الجانبين، بقيت مسألة تطور النزاع وتوسعه المحتمل خارج حدود سيطرة أطر التفكير المنطقي.
الأزمة بتداعياتها وتعرجاتها استولت على اهتمام العالم أجمع، القريب والبعيد.. أبرز ما تطرحه من تكهنات وتساؤلات تتعلق بشكل العالم الذي سيخرج من رحمها، ومحددات العلاقات الدولية المترتبة عليها بعد أن تتضح معالم القوة الحقيقية بين الأطراف المنخرطة بشكل مباشر فيها، أو بين تلك التي تقود وتُسهم في توجيه مجرياتها من الخلف، وبعد أن تظهر إلى العلن طبيعة التحالفات التي ستنبثق عنها على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ليس من السهل رسمُ ملامح محكمة لما ستفصح عنه الأيام التي ستلي انقشاع غبار النزاع بخصوص موازين القوى الدولية والأسس التي سترسو عليها.. الضبابية عنوان يترجم بدقة ماهية علاقات العالم ما بعد النزاع الأوكراني-الروسي لعدد من الأسباب، منها عدم القدرة على الجزم بتحقيق طرف أهدافه العسكرية والسياسية كاملة على حساب طرف آخر في النزاع الثنائي شكلاً وظاهرا، والمتعدد الأطراف واقعاً وحقيقة.
روسيا، الدولة العظمى، لم تتردد في توضيح أهدافها الاستراتيجية النابعة من وحي احتياجات أمنها القومي.. قدمت عدداً من المقترحات والمقاربات، التي تعتقد أن تلبيتها تحقق لها الكثير من الطمأنينة، وبأنها لن تكون هدفاً لخصومها الأطلسيين -على رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية- واعتبرت تمدد الناتو ووصوله إلى تخوم حدائقها الخلفية، وإلى أوكرانيا تحديداً، بمنزلة التهديد المباشر لكيانها وأمنها ووجودها.
السلوكيات الغربية الأطلسية والأمريكية في هذا النزاع عمّقت الشروخ القائمة أساسا مع روسيا.
موسكو حتى بداية اندلاع النزاع مع كييف ظلت تحتفظ بنوع من علاقات المصالح المتبادلة مع بعض العواصم الغربية، برلين مثالا.
عدد من العواصم الغربية كانت تتجاهل التحريض الأمريكي ضد روسيا حفاظا على مصالحها التجارية والاقتصادية والسياسية مع موسكو، وانطلاقا من إدراكها أهمية الجغرافيا السياسية التي تتحكم في وجودها وجوارها مع الأراضي الروسية، وإمكانات الجانبين في بلورة سبل تعاون مشترك بينهما.
في كثير من المنعطفات تمت الاستفادة من هذه العلاقات في تهدئة الخواطر وتجاوز التصعيد مع الجانب الأطلسي عموما، ومع واشنطن في بعض الأحيان.
بعد تفجر النزاع الروسي-الأوكراني، انتقلت برلين إلى حاضنتها الأطلسية وذهبت في رد فعلها إلى حدود تفعيل بنود تسلحها بعد تجاهلها لها منذ أكثر من سبعة وسبعين عاما.
دول أوروبية شرقية عدة كانت حتى مطلع تسعينيات القرن المنصرم جزءا من السلسلة السوفييتية قبل أن يفرط عقدها، رفعت صوتها، حيث برزت بولندا ورومانيا كعاملي إسناد وتنفيذ لمتطلبات الدعم اللوجستي والعسكري الذي تفرضه القيادة الخلفية من قبل واشنطن.
تبدلت موازين القوى على مستوى القارة من جنوبها إلى شمالها، كما حدث مع فنلندا والسويد المحايدتين حين تحدثتا عن رغبة كل منهما في الانضمام إلى هياكل الناتو.
على الضفة الأخرى، تفاوتت مواقف الدول الصديقة لروسيا بين دعم وانسجام مع الأهداف الروسية ومع استراتيجية موسكو والانخراط العملي في العمليات العسكرية، مثل بيلاروسيا، وبين دول حليفة كالصين، التي ارتأت التعبير عن موقفها الداعي للحوار دون التنازل عن نهجها السياسي المناهض لسياسة الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي.
الخارطة التي تشكلت في العالم، بل التي تحددت بشكل أولي معالمُها وخطوطُها وحدودها بوضوح بسبب النزاع الأوكراني الروسي ستكون معياراً أساسياً للمحاصصات السياسية غداة صمت المدافع والانخراط في ترتيب أولويات القوى الدولية، التي ترجح الوقائع الماثلة أن تكون أكثر انقساما وحدَّة بعد عودة نزعة العسكرة إلى حيز العمل السياسي لدى الجميع، وتَمتْرُس القوى الراسخة وتلك الصاعدة خلف هواجسها ومخاوفها من الطرف الآخر.
الولايات المتحدة الأمريكية ستتخذ من الانقسام المرجح على الساحة الدولية سبيلا لتوظيفه ضد حلفائها قبل خصومها، ابتزازاً وترهيباً من الخصم الآخر، وستلجأ إلى ما يتاح لها من أساليب لتعميق الانقسام واستغلاله في صناعة عداوات مع خصومها وأعدائها.
من المبكر الحديث عن استقرار دولي في المدى المنظور، كما يبدو، في ظل تطورات الأزمة الأوكرانية وتصعيد المواقف الأطلسية ضد روسيا من جانب، واستيلاء واشنطن على دفة توجيهها الطرف الأطلسي من جانب آخر.. ويظل التكهن بطبيعة وملامح العلاقات الدولية والعالم الجديد المنبثق عن مرحلة ما بعد النزاع الأوكراني-الروسي محكوماً بمخرجات الصراع الدولي المتنامي على خلفية الأزمة، والذي لا تبدو له أي مسارات واضحة أو محددة.
الأزمة الأوكرانية ستخلّف اضطراباً سياسيا واسعا على الصعيد الدولي لا يقل تعقيداً عن التداعيات الأمنية والاقتصادية والتجارية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة