توارث جيل كامل من الأوروبيين والأمريكان رؤية لروسيا تعود للتسعينيات حين كانت بقايا إمبراطورية خارجة من الشيوعية على إنسان العولمة الاستهلاكي.
هذه الرؤية شجَّعت العديد من السياسيين الأوروبيين، ومعهم امتدادهم الحضاري في الضفة الأخرى من المحيط الأطلسي، على التعامل مع روسيا كطرف "ضعيف مثقل بالهموم الداخلية يحاول النهوض من تركة ثقيلة ورثها عن سبعين عاما من الحكم الشيوعي".
لذلك تحرك قادة حلف الناتو، خصوصا الولايات المتحدة، لاغتنام الفرصة وقطع الطريق أمام عودة "روسيا القوة العظمى"، التي كانت تمثل تهديدا لأي حلم إمبراطوري في أوروبا، من نابليون بونابرت في نهاية القرن الثامن عشر، إلى هتلر في بداية الثلث الثاني من القرن العشرين.. فكلاهما كان يرى أن التخلص من روسيا هو الطريق إلى تحقيق الحلم الإمبراطوري.
كذلك فكر أوباما ووريثه بايدن، فسعيا بكل تعجُّل إلى الإجهاز على القوة الروسية الصاعدة عبر تضييق الخناق على موسكو بتمديد حلف شمال الأطلنطي "الناتو" إلى قلب الاتحاد السوفييتي السابق، وأقرب النقاط إلى موسكو، بضم كل من أوكرانيا وجورجيا لعضوية الحلف، وبذلك تكون أسلحة الناتو على بُعد دقائق من قلب موسكو، بصورة تُفقد روسيا القدرة على رد أي اعتداء بطريقة رادعة.
وقد اتبع كل من "أوباما" و"بايدن" الوسائل نفسها، التي تم تجريبها في العالم العربي كـ"الربيع المشؤوم"، وذلك من خلال تفجير انتفاضات موجهة من الخارج يركب موجاتها نشطاء بلا خبرة سياسية يسهل تحريكهم والتحكم فيهم، وقد ظن السياسيون الأمريكيون -ومَن سار في ركْبهم من الأوروبيين- أن هذا الأسلوب كفيل بخلق نظم تابعة لهم في العمق الاستراتيجي لروسيا، وأن روسيا لن تستطيع أن تفعل شيئا في مواجهة هذه النظم، وأن مفهوم السيادة وقواعد القانون الدولي والخوف من الموقف الدولي المُعادي، أو المواجهة العسكرية مع الغرب، أو العقوبات الاقتصادية القاسية، كفيلة بتكبيل يد روسيا، ومنعها من التحرك تجاه التهديد المباشر، الذي تمثله الدول المجاورة، ذلك التهديد الذي يمس قلب العمق الاستراتيجي الروسي، وأن روسيا سوف يتوقف دورها عند التهديد باستخدام القوة، ولكن لن تستطيع استخدامها خوفا من العواقب الوخيمة التي سوف تترتب على هذا الاستخدام.
وحين فعلها الرئيس الروسي ببدء عملية عسكرية، وهدد باستخدام السلاح النووي إذا لوّح به الناتو أو الولايات المتحدة، هنا كان عنصر المفاجأة قاسيا على الغرب، فقد شعر قادته بالشلل العسكري التام، وتم تحييد القوة العسكرية لحلف الناتو وأمريكا.
هذا الشعور بالهزيمة المعنوية وانكسار كبرياء الغرب وتحطيم تفوقه، وتهديد الهيمنة الأوروبية الأمريكية على العالم، وإظهار هذه الدول في وضع الضعيف غير القادر على نصرة مَن وعد بنصرتهم، ومَن شجّعهم على المواجهة، يكشف المستور من ضعف الغرب، وقد تعاظم هذا الضعف مع الخوف من اشتعال حرب عالمية ثالثة يروح ضحيتها ملايين البشر، حسب تقديرات أولية.
تحت ضغط هذه اللحظة التاريخية ظهر كل ما تخبَّأ من العقل الغربي، سواء في القارة العجوز، أوروبا، أو في أمريكا الشمالية، إذ ظهر الخطاب العنصري، الذي ينحاز لـ"الإنسان الأبيض ذي العيون الزرقاء"، باعتباره "الإنسان الحقيقي"، أما باقي شعوب العالم فهم "بشر من درجة أقل"، فالأوكرانيون في ميزانهم مثلا ليسوا كالعراقيين والسوريين.
كذلك كشف الغرب عن "نفاقه" الشديد في كل ما يتعلق بالحريات العامة، مثل حرية المعلومة، وحرية الرأي، وحرية التعبير، وحرية الصحافة، وظهر أن ذلك كله مجرد أدوات يتم توظيفها لتحقيق مصالح غربية، وحين تم تهديد هذه المصالح تخلّت هذه الدول عن تلك "الحريات"، فتم فرض حظر على الصحف، وقنوات التلفاز، التي لا تسوّق الدعاية الغربية.
كشفت الأزمة الأوكرانية أن كل وسائل العولمة هي في حقيقتها وسائل الغرب وأمريكا لتحقيق السيادة والهيمنة على العالم، وأن ما يعتبر وسائل "محايدة" قد أصبحت أدوات سياسية لعقاب "الأعداء" وإخضاعهم دون سلاح، فأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أدوات سياسية، وكذلك المنظمات الرياضية الدولية، والوسائط المالية العالمية.
وكانت الكارثة الكبرى حين أصبح الغرب "المتحضِّر" يقلد نهج تنظيمات خارجة عن أطر القانون الدولي ويحاربها العالم، حين دعت حكوماته وشرّعت برلماناته تشكيل فرق و"فيالق" من "المتطوعين" للقتال في أوكرانيا، وهؤلاء "المتطوعون" لا ينتمون للوطن الأوكراني، لكنهم مجرد "جماعات مسلحة أوروبية مأجورة".. وكالعادة تُبدع هذه الدول في استخدام تسميات لإضفاء قبول على غير المقبول، ولصق شرعية متوهَّمة على مسلك لا يقبله القانون الدولي، إذ تمت تسمية أمثال هؤلاء المسلحين بـ"الفيلق الدولي"، وليس "المرتزقة" أو "الإرهابيين" كتسمية أدق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة