الفلسطينية "أم العبد".. بائعة خردة تبحث عن غدٍ أفضل منذ 50 عاما
أم العبد تقول إنه لا يوجد في غزة من لا يعرفها وهذا لم يأتِ صدفة بل من عمل مرير وقاسٍ وسنوات مرت عليها فصول وأهوال
يعد دكان الجدة الفلسطينية "أم العبد" علامة معروفة في أشهر أسواق قطاع غزة، فهي تبيع فيه كل يوم منذ 50 عاما الأدوات المستعملة التي يطلق عليها الفلسطينيون "الخردة".
ويمكنك قراءة عثرات الدهر الطويل في تجاعيد وجهها فهي لا تنام سوى ساعات قليلة، لتترك جسدها المنهك بعد سنين التعب يرتاح على فرشة بالية في هذا الدكان.
وأتت أم العبد إلى هذه الدنيا مهاجرة مع أسرتها المجدلاوية لتحط جنبها في مدينة غزة، حيث كثبان الرمل وبيوت قليلة لا تتسع للقادمين، فلم يجد والدها سوى السوق ليبدأ من الصفر ويبيع الأدوات المستعملة.
وهكذا دخلت صباح أبوعاصي (67 سنة) عالم التجارة الشعبية، ليقضي عليها الدهر حكمه لتكون أول امرأة تشتغل بالبيع والشراء في سوق فراس، أشهر أسواق قطاع غزة وأقدمها على الإطلاق.
فصباح باعت واشترت وهي على عربة حمار يوم كان عمرها 5 سنوات مع والدها، تتنقل من حارة إلى حارة، وصوتها يردد أسماء ما تحمله العربة التي يجرها حمار صغير، لتعود إلى مكان أسرتها الفقيرة آخر النّهار، وترمي جسدها الغض، لتغفو ساعات قليلة، بعدها يوقظها والدها على صوت مؤذن الفجر لتجهز نفسها لتجوال يكرر عليها الأيام تكرار الأوراق بين دفتي كتاب، منذ طفولتها حتى الثلاثين من عمرها قضتها في تجارة متنقلة إلى أن وجدت مكاناً صغيراً في سوق فراس لتتخذه دكاناً ومبيتاً.
تقول صباح أبوعاصي لـ"العين الإخبارية": "الحياة أتعبتني ولكنني لم أستسلم لها، ولو أنها قهرت أشياء كثيرة في داخلي، بقيت صامدة، أتطلع كل يوم في كفّ يدي وأقرأ تاريخ ميلادي 20/4/1953م لتأخذني ذاكرتي إلى أيام صعبة للغاية".
وتابعت: "لا أصدق أحياناً أنني ما زلت على قيد الحياة، أيامنا في الماضي كانت قاهرة، ومنهكة وثقيلة، ولكنها كانت ذات معنى، خاصة العلاقات بين الناس كانت أفضل بكثير من هذه الأيام، رغم شقوتها فإنها كانت أياما للحب والفرح البسيط والأمل البعيد، أما اليوم وقد أصبح عندي ما لا يقل عن 70 حفيدا لا أعرف أسماءهم كلهم، ولي 8 بنات و4 أولاد أصبحوا آباء، ربيتهم من عرق جبيني، وبيع الخردة في السوق، ولم أندم على عملي هذا، لأنه يربطني بوالدي رحمه الله، الذي علمني التجارة، والشطارة ومواجهة الحياة بكل إصرار".
دكانها يحتوي على كل شيء يخص البيوت والمزارع والصنّاع وأشياء لا تعرف لها أسماء هي تعرفها وتعرف مكانها، ومتى اشترتها ومنْ مَن اشترتها.
وتتخذ من كرسي القش الصغير عرشاً لها، تجلس عليه منذ ساعات الصباح الأولى إلى زوال الشمس، تخفي في جيب صدرها كيساً من البلاستيك محشوا بالنقود تدخله مكانه وتخرجه للعين مئات المرات في اليوم، وكأنّها تقوم بتدريب رياضي لا شعوري، تعد طعامها الاعتيادي على غاز صغير وطنجرة قديمة أو مقلاة صغيرة تكفي لبيضتين أو حبتين من الطماطم "البندورة" ورغيف خبز يكفيها طوال النهار لتتناول قطعة من الجبنة البيضاء أو الزعتر والزيت قبل أن تضع رأسها على وسادتها وجنبها على فرشتها القريبة من عتبة الدكان بعد إغلاقه جيداً.
وتقول:"علمتني الحياة ألا أبعد عن مصدر رزقي وأن أحافظ على بضاعتي وألا أثق بمخلوق حتى ولو كان ولدي أو حفيدي، لأن تعب العمر لم يعطني أكثر مما أخذ مني، فراحت سنوات حياتي وأنا أنادي في السوق على المشترين، ومفاوضات على أسعار البضائع المستعملة، وجدل التجار الذي يصدع الرؤوس، لم أنتبه لما بعد كل هذا التعب".
وأضافت: "لم أعش كأي سيدة مع أسرتها وبيتها وأولادها بجو عائلي، وإن حدث لي هذا مرات عديدة في حياتي فهي استثناء ليست إلا، ومكاني الطبيعي هنا، داخل دكاني الصغير المعتم والمحشو بالخردة، وبعض البضائع قليلة الثمن، وعلبة الأدوية بقربي كلما شعرت بإرهاق أخذت ما يخفف ألمي، لكي أكمل يومي بالبيع والشراء".
وأضافت: "لا يوجد في غزة مَن لا يعرف أم العبد أبوعاصي وهذا لم يأتِ صدفة بل من عمل مرير وقاسٍ وسنوات مرت عليها فصول وأهوال، وأنا أصدح بصوتي وأركض خلف حمار قليل الحيلة، وأب سعاله كان يوقظ الناس من نومهم، سنوات لم تعشها امرأة قبلي على ما أظن، ولكنني راضية فأنا سرقت من أيام طفولتي بعض الوقت لكي أتعلم في الكتاتيب ووصلت إلى المرحلة الإعدادية، وتزوجت وعمري لم يتجاوز الـ16 من عمري، وكانت الأيام التي أنجب فيها أصعب أيام حياتي لأنها كانت تبعدني عن السوق، فروحي لا تطيق البعد عن السوق، وحركة الناس وأصوات الباعة".
وتابعت: "رغم أنها مهنة متعبة فإنني أحبها ولا أستطيع أن أبتعد عنها، وإذا مرضت لا أنتظر علاجي إلى آخره بل أترك كل شيء وأفتح دكاني وأبيع وأشتري، هذا ما أورثني إياه والدي وظله يطاردني منذ أن كنت بنتا صغيرة أسحب لثام الحمار وأجره وهو جالس فوق العربة ينادي على أهل الدنيا ليشتروا منه".
وتقول أم العبد إنها تقلق على مستقبل أولادها بعد رحيلها: "قلقي على بناتي فهن مسكينات وأزواجهن لا يعملن، وهنّ اللاتي يكسرن قلبي، لا أريد من حياتي شيئا سوى أن أطمئن عليهن، وأن أُدفن بجوار أبي الذي كان رفيقي في هذه الحياة، ويوم أن مات صرت وحدي أحني ظهري أكثر من انتصابه لأن الدنيا تغيرت ولم تعد الرحمة في قلوب الناس".
وتابعت: "القائمون على أمر غزة لا يشبعون من ملاحقتنا بالضرائب، يريدون ضرائب على بضائع مستخدمة، وخردة بالية، لا أبيع منها أكثر مما يؤمن لي كيلو خبز وبعض الخضار، فمنذ سنين وأنا أعمل فقط من أجل أن أدفع الضرائب"، وتضيف: "عندما سرق دكاني قبل 3 سنوات لم أجدهم بجانبي، وقُيدت السرقة ضد مجهول".
وتختتم حديثها بقولها: "الحياة مريرة وقاسية ومتعبة، لم أرَ منها سوى المعاناة وأيام الأسى، وبعد 50 سنة من البيع والشراء وضجيج الأسواق لم يتبقَّ في نفسي سوى أن أزور بيت الله العتيق وأطوف طواف الخروج من هذه الدنيا، ولعل في آخرتي ما هو أفضل لي منزلة وتجارة مع الله لن تبور".