الراحل الباجي قايد السبسي وضع بصمته وحكمته في صفحات تاريخ تونس الحديث والمعاصر المشرقة.
لم تكن جنازة عادية تلك التي رافقت الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي من المشفى إلى المقبرة، حيث مثواه الأخير، وما يلفت الانتباه فيها ليس الحضور العربي أو الدولي فحسب، بل بالتفاف التونسيين حول جثمان رئيسهم الذي وصفوه بالحكيم؛ لأنه نقل تونس من حالة اللاستقرار إلى بر الأمان رافضا سلوك الإقصاء الذي انتهجه من سبقه.
ثمة رجال يصنعون تاريخا ومن هؤلاء الرئيس التونسي "الباجي قايد السبسي" الذي استطاع أن يكون ركيزة السياسة التونسية منذ عهد الرئيس الأسبق "الحبيب بورقيبة" إثر نضال استمر لعقود طويلة على الساحة السياسية منذ تأسيس الجمهورية الأولى التي ساندها ودعمها بمواقفه وثقله، فعاصر "السبسي" أمداً طويلاً من الجمهورية التونسية من مرحلة التأسيس إلى مرحلة الثورة والإطاحة بنظام "زين العابدين بن علي" إلى إرساء الجمهورية الديمقراطية المعاصرة والحافلة بالعمل السياسي والنضال والجرأة في بناء الخارطة السياسية لتونس. فقد مر نضاله السياسي بحقبتين لا تقل إحداهما عن الأخرى أهمية وخطورة فامتاز رحمه الله بالحكمة الواقعية التي تفرضها وقائع الأحداث على الساحة السياسية التونسية بما يضمن تماسك الدولة، وهاتان الحقبتان هما:
السبسي وضع بصمته وحكمته في صفحات تاريخ تونس الحديث والمعاصر المشرقة؛ حكمة تستحق أن تكون مثلاً يحتذى به وقدوة يقتدى بها، وحق للشعب التونسي أن يبكيه ويعلن الحداد لرحيله كما يحق له أن يودعه التونسيون هذا الوداع الوطني المهيب تكريماً لما قدمه هذا الرجل لتونس والتونسيين.
أولاً: ما قبل الثورة التونسية؛ فمنذ تخرج الراحل "الباجي قايد السبسي" في جامعات باريس مجازاً بالحقوق ولقائه الحبيب بورقيبة عاد إلى تونس لمزاولة العمل السياسي فتدرج في المناصب الحكومية بين مختلف الوزارات والأعمال الدبلوماسية. ولكن ما يميز تاريخ الرجل السياسي هو الانفتاح والواقعية السياسية التي وسمت شخصيته وفكره المتحرر، وذلك من خلال دعمه للحركات التحررية التقدمية التي تنادي بتطوير البلاد ونهضتها، فتنقل بين مختلف الأحزاب السياسية التي كانت تناضل على الساحة غير منبهر بالمناصب التي تعرض عليه، فكان مواليا مساندا للحزب السياسي الذي يحكم البلاد حتى يتبين له مخالفته لفكره ومبادئه السياسية الليبرالية العلمانية القائمة على التنوع والعمل المشترك للنهوض بالدولة، فينبري معارضاً له معارضة فكرية راقية تقوم على النقد البناء بالكلمة الحرة ومنابر التفكير المنطقي الواقعي؛ ما جعل الرجل شخصية محبوبة مقبولة من جميع الأطراف السياسية التونسية ويُدعى لتولي المناصب الرفيعة حتى ممن يعارضهم في فكره لما عرف عنه من الوطنية وإعلاء مصلحة الدولة والشعب على كل مصلحة حزبية أو شخصية، بل إنه كان في بعض الأحيان وفي خضم احتداد الصراع السياسي بين الأحزاب يعلن استقلاله عن أي تحزب خوفاً على الدولة من أن تنزلق نحو المجهول. كل هذا جعل الراحل "السبسي" شخصية سياسية تونسية وطنية بامتياز شعارها حرية المواطن ورفعة الوطن لذلك بكاه شعبه بحرقة وألم شديدين.
ثانياً: ما بعد الثورة التونسية؛ فكانت هذه المرحلة بمثابة اختبار وامتحان لكل الأحزاب ورجال السياسة التونسيين إذ أسقطت ورقة التوت عن الجميع مميِّزة الذي يبحث عن مصالح حزبية وسياسية من الذي يعلي المصلحة الوطنية. اختبار اجتازه "السبسي" بجدارة اجتيازا يجعل العدو قبل الصديق يقف إجلالاً لهذا الرجل لإيمانه بالشعب التونسي واحترامه لرغبة شعبه الديمقراطية مرسياً دعائم فكره المنفتح وإن كان على حساب رؤيته السياسية حين لعب دوراً مهما في مرحلة الانتقال الديمقراطي في بلاده إثر الأزمة السياسية التي عرفتها في 2013م وانتهاج سياسة التوافق التي جمعته مع "راشد الغنوشي" رئيس حركة النهضة ومكونات سياسية أخرى. كل ذلك كان احتراماً لرغبة الناخب التونسي ولكيان الدولة التونسية وإن لاقى ذلك العديد من الانتقادات التي خشيت ضياع تونس في غيابة البئر الإخوانية. ولكن إيمان السبسي انتصر في النهاية إذ إنه كان مؤمناً بالشعب التونسي مراهناً على وعيه وحقه في تجريب كل التيارات السياسية، وما إن يحيد التيار عن مصلحة البلاد يقتلعه التونسي من الحكم بهدوء وسلاسة عبر صناديق الاقتراع. وهذا ما حدث فما هي إلا فترة رئاسية واحدة ليرفض بعدها أبناء الخضراء بكامل إرادتهم ووعيهم الأحزاب الإخوانية بعدم تجديدهم انتخاب مرشح حركة النهضة متجهين بأصواتهم وبانتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة لتسمية "الباجي قايد السبسي" رئيساً لتونس. فكانت فترة سياسية حافلة بالصراع السياسي ومجابهة شبح الإرهاب استطاع "السبسي" خلالها إدارة دفة البلاد بحكمة وروية واستيعاب مع فرض شعار حملته الانتخابية آنذاك "هيبة الدولة"، هذا على المستوى الداخلي أما على المستوى الخارجي فاتبع سياسة منفتحة تنأى فيها تونس عن التدخل في أي شأن داخلي لدولة من الدول سواء العربية أو الأجنبية منتهجاً سياسة الدولة المؤسساتية التي تحافظ على العلاقات المتوازنة مع الجميع، وتمكين العلاقات مع المحيط القومي والإقليمي؛ ما نشّط السياسة الخارجية التونسية في محيطها المغاربي والعربي المرتبطة به عضويا وفي المستوى الدولي عموماً المرتبطة به سياسياً؛ ما أسهم في استقرار تونس والسير على طريق الاستقرار السياسي والإداري لتبدأ مرحلة بناء تونس الجديدة.
لا توجد كلمة تصف تاريخ هذا الرجل السياسي والإداري من حنكة وخبرة وجرأة ككلمة "الحكيم" ولا سيما في مرحلة ما بعد الثورة التونسية لما اكتنفها من حساسية ومنعطفات زلقة كادت أن تجعل البلاد هباء منثورا كما حدث في العديد من الدول العربية إثر موجة ما سُمي "الربيع العربي" ولكن السبسي وضع بصمته وحكمته في صفحات تاريخ تونس الحديث والمعاصر المشرقة؛ حكمة تستحق أن تكون مثلاً يحتذى به وقدوة يقتدى بها وحق للشعب التونسي أن يبكيه ويعلن الحداد لرحيله كما يحق له أن يودعه التونسيون هذا الوداع الوطني المهيب تكريماً لما قدمه هذا الرجل لتونس والتونسيين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة