آليات "إسعاد" الشعوب.. الإمارات العربية نموذجاً
ما أبرز الآليات التي ترتكن إليها دولة الإمارات بغية خلق مناخ ملائم لتعزيز القيم الإنسانية التي تقود إلى سعادة الشعوب؟
أولى الأكاديميون قدرًا كبيرًا من الاهتمام نحو مفهوم "السعادة" أو "السعي نحو السعادة"، وبُذِلت محاولات عدة لاختبار وبحث العلاقات الارتباطية بين مفهوم السعادة وقضايا أخرى. إذ لم يَعُد الاهتمام قاصرًا على قضايا لطالما قبعت في دائرة الاهتمام التقليدي لمجتمع الباحثين في العلوم الإنسانية والاجتماعية من قبيل السياسات الخارجية للدول ومحدداتها، وسياساتها الاقتصادية، ودولة "الرفاه" welfare state وما يتصل بها من معدلات الإنفاق العام على الخدمات الأساسية التي يجري تقديمها للمواطنين وغيرها من الموضوعات التقليدية.
ولذا شهدت السنوات القليلة الماضية، جهدًا أكاديميًا حثيثًا لتحليل ما وراء الرقم أو القيمة المعلنة للناتج المحلي الإجمالي لأي دولة، والنظر إلى السعادة باعتبارها عنصرًا أساسيًا لابدّ من أخذه في الاعتبار عند بلورة السياسات العامة للدول، وجرت محاولات مهمة للربط بين السعادة والعديد من القضايا ذات الأبعاد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية لعل من بينها، الهجرة، واللجوء، والعمالة، والتصويت الانتخابي، وتحسين جودة الحياة ومستوى الرفاه الاجتماعي.
ولعل أبرز الأطروحات الأكاديمية في هذا الصدد كتاب "سياسات السعادة: ما الذي تستطيع الحكومات تعلُّمه من الأبحاث الجديدة حول الرفاه" الصادر في فبراير/شباط لعام 2010 لديريك بوك Derek Bok، وهو رئيس سابق لجامعة هارفرد، وقد سعى ديريك في كتابه لتقديم رؤية عامة وشاملة لخلاصة الأبحاث الاقتصادية والسيكولوجية التي قُدِّمت حول السعادة على مدار 35 عامًا، وتحليل انعكاسات القرارات الحكومية والسياسات العامة على الشعوب من منطلق أنَّ السياسات والقرارات الحكومية تُحْدِث تأثيرات بالغة الأهمية على النمو الاقتصادي، وتقليل التفاوتات الاجتماعية، ومستوى الخدمات العامة كالتعليم والصحة وغيرها من العوامل وثيقة الصلة بسعادة الشعوب.
وانتهى إلى القول بأنَّ أكثر ما يثير الاهتمام في بحوث السعادة هو نتائجها التي تمثِّل خروجًا عن المألوف والمتوقع؛ فالدول التي تتسم بارتفاع مستويات دخولها ليست بالضرورة دولًا سعيدة، وغيرها من النتائج التي تأتي في بعض الأحيان متناقضة مع منطق الأشياء وطبائعها.
وبالتوازي مع اهتمام المجتمع البحثي بمفهوم السعادة، ظهرت تقارير أممية ترتكن إلى مؤشرات عدة لقياس سعادة الشعوب لعل من بينها تقرير السعادة العالمي World Happiness Report الذي يصدر عن شبكة حلول التنمية المستدامة Sustainable Development Solutions Network التابعة للأمم المتحدة منذ أبريل/نيسان لعام 2012، وذلك على خلفية انعقاد اجتماع رفيع المستوى جاء تحت عنوان "الرفاه والسعادة: نحو تعريف أنموذج اقتصادي جديد". ويستند مؤشر السعادة Happiness Index المتضمَّن في التقرير إلى مؤشرات أو متغيرات variables عدة من شأنها تعزيز الرفاه وجودة حياة الأفراد من بينها مستوى الدخل الفردي، الثقة، الحرية، الدعم الاجتماعي، متوسط العمر المتوقع أو المأمول للبقاء على قيد الحياة وبصحة جيدة.
والقارئ للتقرير في نسخه الصادرة على مدار السنوات القليلة الماضية، وما تمخَّض عنه من نتائج، يتبيَّن بجلاء التقدم الذي استطاعت دولة الإمارات إحرازه على مؤشر السعادة. إذ أنَّه وفقًا لنتائج التقرير في عام 2018، قبعت الإمارات في صدارة الدول العربية للمرة الرابعة على التوالي، وأحرزت المركز الـ 20 عالميًا متقدمة بنحو 8 مراكز على مؤشر السعادة مقارنةً بنتائج عام 2016؛ حيث كانت تحتل المرتبة الـ 28 عالميًا. الأمر الذي يتطلَّب الوقوف على أبرز الآليات التي ترتكن إليها دولة الإمارات بغية خلق مناخ ملائم لتعزيز القيم الإنسانية التي تقود إلى سعادة الشعوب، وعلى رأسها قيم "الإيجابية"، و"التسامح"، وقبول الآخر" و"تقدير الذات".
أولًا: الآليات المؤسسية
وتتمثَّل في وزارات ومراكز فكر استحدثتها الإمارات، وتتمحور أجندتها حول توفير السعادة والرخاء والرفاهية للقاطنين سواء ممن يحملون الجنسية الإماراتية أو جنسيات أخرى، لعل أبرزها ما يلي:
- وزارة السعادة:
أعلن الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم،نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء ،حاكم دبي، عبر حسابه على تويتر، في فبراير/ شباط لعام 2016، تدشين منصب وزير دولة للسعادة، وذلك تزامنًا مع فعاليات "حوار المستقبل" التي شهدتها القمة العالمية للحكومات، وعقب التعديل الوزاري في أكتوبر/تشرين الأول 2017، جرت إضافة حقيبة وزارية جديدة لمنصب وزير دولة للسعادة، ليصبح وزير دولة للسعادة وجودة الحياة، وقد أُسْنِدت مهام المنصب الجديد للوزيرة عهود بنت خلفان الرومي، وتتولى الوزارة، حسبما ورد بالبوابة الرسمية لحكومة الإمارات، مواءمة وتنسيق كافة الخطط والبرامج والسياسات الحكومية لتحقيق سعادة المجتمع.
كما تأسَّست مجالس للسعادة والإيجابية لدى الجهات الاتحادية تضم ممثلين عن قطاعات سكانية ومناطق مختلفة، وتسعى لتحقيق الهدف ذاته من خلال إطلاق وتنفيذ ومتابعة البرامج والخطط والمبادرات الوطنية ذات الصلة، ومنوط بها أيضًا تعزيز قيم السعادة والإيجابية في بيئة العمل الداخلية.
- مركز الإمارات لأبحاث السعادة:
ويعتبر المركز الأول من نوعه لتقديم أبحاث ودراسات علمية متخصصة تتصل بمفهوم السعادة ومؤشراته وأدوات قياسه فضلًا عن رصد توجهات الرأي العام، الأمر الذي يفضي إلى إثراء المحتوى الأكاديمي المتعلق بالسعادة، والمساهمة في البحوث والدراسات والتقارير العالمية في هذا الشأن، وقد أُعلن عن تأسيس المركز في مارس/أذار عام 2017 بمبادرة من جامعة الإمارات بالتعاون مع البرنامج الوطني للسعادة والإيجابية، وهو أحد المبادرات الوطنية التي استهدفت خلق بيئة ملائمة لتعزيز سعادة ورفاهية الشعب الإماراتي سيجرى التطرُّق إليه لاحقًا.
- وزارة التسامح:
أُعلِن عن تعيين وزير دولة للتسامح لأول مرة بالإمارات في فبراير/شباط لعام 2016، وذلك إبَّان إعلان الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم عن التشكيل الوزاري الثاني عشر، والذي شهد عدة تغييرات جوهرية في الحكومة الاتحادية. ولعل الهدف من استحداث تلك الحقبة الوزارية ينصرف إلى الرغبة في إرساء قيم التسامح والتعايش السلمي والتعددية وقبول الآخر فكريًا ودينيًا وطائفيًا وثقافيًا، ونبذ أي شكل من أشكال العنصرية قد يعتري العلاقات بين المواطنين والوافدين الأجانب.
- المعهد الدولي للتسامح:
جرى افتتاح هذا المعهد منتصف عام 2017، ليكون بمثابة مركزًا للفكر يُناط به إعداد الأبحاث والدراسات المتعلقة بقيمة التسامح كواحدة من أبرز القيم الإنسانية التي من الضروري ترسيخها في المجتمعات إذا ما أُريد تحقيق الاستقرار المجتمعي، وكذا الدراسات التي تتمحور حول ظاهرتي العنف والتطرف.
وقد عُهِد إلى المعهد أيضًا مهام أخرى تتصل بتقديم الحلول المبتكرة لمواجهة المشكلات الناجمة عن غياب قيم التسامح والتعايش السلمي، وتوفير الدعم اللازم للباحثين في المنطقة العربية في هذا الصدد بالإضافة إلى التعاون والتنسيق مع وزارة التربية والتعليم بشأن إعداد المنهج الدراسي الخاص بالتسامح في المدراس الحكومية والخاصة على مستوى الدولة.
- وزارة اللامستحيل:
اسْتُحْدِثت هذه الوزارة في أبريل/ نيسان الماضي، وأضحت إلى جانب وزارات التسامح والسعادة، والذكاء الاصطناعي ضمن الحقب الوزارية التي تنفرد بها الإمارات عالميًا. وتبتغي الوزارة إحداث تغيير جذري لمنظومة العمل الحكومي إضافةً إلى تطوير حلول ونماذج عمل جديدة ومبتكرة لموضوعات معينة خلال فترة زمنية محددة ترتكن إلى دراسة المخاطر. وهي وزارة افتراضية يتكون طاقمها من أعضاء مجلس الوزراء الإماراتي.
وهناك مجموعة من الملفات الوطنية التي جرى إسنادها إلى الوزارة كمرحلة أولى، لعل من بينها إدارة المكافآت السلوكية، والتي تستهدف حفز الأفراد للاضطلاع بالسلوكيات الجيدة والإيجابية من خلال نظام المكافآت على شاكلة نقاط يتم الاستفادة منها عند دفع رسوم الخدمات الحكومية المختلفة. بالإضافة إلى إدارة اكتشاف المهارات، وتصبو إلى تهيئة بيئة مناسبة لتنمية مهارات المواطنين وتوظيفها في العملية التنموية فضلًا عن تطوير آلية يمكن من خلالها اكتشاف مهارات المواطنين من مختلف الأعمار. إلى جانب إدارة منصة المشتريات الحكومية، ومنوط بها تطوير منظومة المشتريات الحكومية وتوجيهها لدعم أصحاب المشروعات الصغيرة والمتوسطة والاستفادة من ابتكارات التجارة الإلكترونية.
ثانيًا: المبادرات الوطنية
ويأتي في مقدمتها:
- البرنامج الوطني للسعادة وجودة الحياة:
تقدَّمت وزيرة الدولة للسعادة وجودة الحياة عهود الرومي بالبرنامج الوطني للسعادة وجودة الحياة National Program for Happiness & Wellbeing الذي اطلع عليه وأقرَّه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في مارس/ آذار عام 2016، ويضم البرنامج حزمة من السياسات والمبادرات لتعزيز أنماط الحياة الإيجابية على مستويات ثلاثة ألا وهي المستوى المجتمعي، والحكومي، والعالمي.
فعلى المستوى المجتمعي، تم إجراء المسح الوطني للسعادة وجودة الحياة، والذي شمل أكثر من 16 ألف مبحوث لتقديم مقترحات من شأنها رفع مستوى السعادة وجودة الحياة للاطلاع عليها من قِبل الجهات الحكومية المختصة. ولعل من أبرز المبادرات على المستوى الحكومي، تقديم سلسلة من الندوات للعاملين بالجهاز البيروقراطي للدولة لاستطلاع آرائهم فيما يتصل بالمحفزات التي ترفع من مستوى السعادة في بيئة العمل وتحسين جودة حياة الموظفين.
وفيما يتعلق بالمستوى العالمي، أطلق الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم المجلس العالمي للسعادة، بهيكل عضوية يتألَّف من 12 عالمًا وخبيرًا لحشد الجهود، وحفز المجتمع الدولي على تبني مفاهيم السعادة والإيجابية وتحسين جودة الحياة.
- إطلاق عام "التسامح":
أعلن الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان رئيس دولة الإمارات في منتصف ديسمبر 2018 عام 2019 "عامًا للتسامح" يرتكز على إيلاء الجانب الأعظم من الاهتمام لمحاور خمسة رئيسية وهي، تعميق قيم التسامح والانفتاح على الثقافات والشعوب الأخرى المقيمة بدولة الإمارات، وترسيخ مكانة الإمارات باعتبارها "عاصمة عالمية للتسامح" من خلال المبادرات والمساهمات البحثية في حوار الحضارات.
بالإضافة إلى محاور أخرى تتعلق بتعزيز "التسامح الثقافي" من خلال طرح وتنفيذ مجموعة من المبادرات الثقافية والمجتمعية، وكذا طرح تشريعات وسياسات تستهدف تعزيز قيم التسامح الثقافي والديني والاجتماعي. أضِفْ إلى ذلك طرح مبادرات إعلامية لتعزيز خطاب التسامح وقبول الآخر.
- مبادرات عنوانها "قبول الآخر" دينيًا، وهي مجموعة من المبادرات لها دلالة بالغة الأهمية في إعلاء قيمة التسامح الديني تجاه قاطني دولة الإمارات ممن لا يحملون الجنسية الإماراتية ويعتنقون ديانات أخرى. لعل من بينها على سبيل المثال لا الحصر، إطلاق اسم مريم أم عيسى عليها السلام على مسجد الشيخ محمد بن زايد في منطقة المشرف كما شهدت الأيام القليلة الماضية الإعلان عن وضع حجر الأساس لأول معبد هندوسي في الإمارات، والذي سيؤسَّس في منطقة بومريخة على طريق أبو ظبي دبي.
ثالثًا: استضافة المؤتمرات العالمية وتنظيم الفعاليات الثقافية والرياضية والفنية
بإعلان عام 2019 عامًا للتسامح، عُقِدت فعاليات عدة بالإمارات لترسيخ قيم التسامح ورفع مستوى سعادة المواطنين، لعل من بينها على سبيل المثال، استضافة دبي مطلع إبريل/نيسان الماضي ملتقى "إثراء المحتوى المعرفي في مجال التسامح" بمشاركة نخبة من المفكرين والناشرين والمبدعين والفنانين. وقد استهدف الملتقى فتح باب النقاش حول أبرز التحديات التي تجابه الإنتاج المعرفي، الكتب أو المحتوى الرقمي أو الفني أو مواقع التواصل الاجتماعي، الرامي إلى تعزيز قيمة التسامح في محاولة للبحث عن حلول مبتكرة للتغلب على تلك التحديات.
وأقيمت فعاليات رياضية عدة في هذا الصدد لعل من بينها إطلاق مسيرة "التسامح" في مارس الماضي لتكون أبرز فعاليات النسخة الرابعة لليوم الرياضي الوطني إلى جانب استضافة المؤتمرات الدولية لحشد جهود المجتمع الدولي لتعزيز قيم التسامح منها مثلًا مؤتمر "التسامح في سياق النظم والتشريعات" بأبوظبي بحضور عشرات الخبراء القانونيين والحقوقيين. وتمثَّلت أبرز مخرجاته في توقيع إعلان المؤتمر الذي بلور العديد من التوصيات القانونية التي قد تفيد المشرِّعين حول العالم لا سيما فيما يتعلق بالتشريعات القانونية التي تعزِّز قيم التسامح والتعايش السلمي واحترام الآخر ونبذ الكراهية والعنف والتطرف، بالإضافة إلى تنظيم مجلس زايد التابع لجمعية الفجيرة الثقافية الاجتماعية لمخيم "التسامح" منتصف أبريل/ نيسان الماضي رافعًا شعار "معًا نبني المستقبل". وقد شهد المخيم العديد من الورش الفنية بالإضافة إلى مسابقات رياضية متنوعة.
وختامًا، يمكن القول إنَّ ثمة قاسما مشتركا بين مختلف الآليات التي اتخذتها دولة الإمارات العربية المتحدة لتعزيز بيئة حاضنة لقيم التسامح والتعايش السلمي والتعددية وقبول الآخر تقود إلى إسعاد المواطنين ورفع جودة حياتهم ألا وهو وجود إدراك ورغبة حقيقية لدى القيادة السياسية لتحقيق تراكم في رأس المال البشري human capital بجعل الإنسان محورًا وهدفًا لتلك الجهود والمبادرات.
فالاستثمار في البشر هو الخطوة الأولى على طريق تحقيق التنمية؛ ذلك لأنَّ الفرد هو المحرِّك الرئيسي للتنمية، وإيلاء القدر الكافي من الاهتمام لرفع جودة حياته هو الضمانة الحقيقية للنهوض بأعباء العملية التنموية ومتطلباتها على نحو يتسم بالشمول والاستدامة، وتوفير مناخ ملائم للعيش المشترك بما يحقِّق الاستقرار المجتمعي ويجابه أي نزعات أو توجهات راديكالية.