الأمم المتحدة.. هل تتحقق "نبوءة" بوتين؟
أفرزت توازنات الحرب العالمية الثانية الأمم المتحدة لكن الخلل الذي قد تحدثه الحرب الأوكرانية يهدد وجود المنظمة.
الأمم المتحدة؛ المؤسسة المنبثقة عن موازين القوى لما بعد الحرب العالمية الثانية، تواجه اليوم خطر استنساخ سابقتها؛ عصبة الأمم، في نتاج قد يكون بديهيا بالنظر إلى التغيرات العاصفة التي يشهدها النظام العالمي القائم.
فما بين شمال أوراسيا حيث تقع روسيا، وأوروبا الشرقية التي تحتضن أوكرانيا، يبدو العالم مقبلا على إحداثيات جديدة يتم فيها إعادة صياغة ترتيبات الحرب الباردة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، ما قد يقود نحو إعادة صياغة أيضا للتوازنات الدولية التي ستفرزها الحرب في أوكرانيا.
فقبل نحو 77 عاما، فشلت "عصبة الأمم" في حل النزاعات القائمة بأوروبا ما قاد نحو اندلاع الحرب العالمية الثانية، وحين وضعت الحرب أوزارها أنشأت قوات الحلفاء التي خرجت منتصرة الأمم المتحدة سعيا نحو إضفاء نوع من الفاعلية على عمل المنظمة.
لكن وفي ظل المتغيرات العاصفة حول العالم، وخصوصا عقب اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، يخشى محللون أن تواجه الأمم المتحدة مصير سابقتها في حال أفرز الصراع الحالي خارطة قوى مختلفة، وتغيرت الأدوار أو موازين القوى.
فالأمم المتحدة التي تأسست في إطار توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية ظلت حبيسة ذلك التوازن، ما يعني أن أي إعادة ترتيب أو توزيع للأدوار أو تدوير للترتيبات قد يوجه سهما قاتلا في قلب المؤسسة ويحيلها إلى مصير سابقتها التي جرى حلها بنهاية الحرب.
وفي خضم الحرب الراهنة التي تشنها روسيا على أوكرانيا، يبدو أن توازنات القوى الدولية ستتغير وفقا لما تفرضه الموازين على الأرض، والتحالفات، ومن ثمة النتائج، خصوصا أن موسكو تسعى حاليا إلى إقامة نوع من "الجدار العازل" مع أوكرانيا عبر منطقة دونباس.
فسيطرة موسكو على هذه المنطقة سيمنحها حزاما أمنيا يقيها تهديدات حلف شمال الأطلسي "الناتو" لحدودها الشرقية، وبالتالي، لن يشكل انضمام أوكرانيا أو من بعدها جورجيا للحلف، أي خطر على "الأمن القومي الروسي"، كما يقول مسؤولون.
لاعبون كبار
بين جنيف نيويورك، تناقش الأمم المتحدة أزمات العالم وتصاغ القرارات بشأنه، ففي المدينة السويسرية يجري تناول التحديات التي تواجه العالم بالتحليل والنقاش، قبل أن تقرر الدول الأعضاء بالمدينة الأمريكية الخيارات الواجب تبنيها لمواجهتها.
وما بين المدينتين، تتكثف إرادة العالم لتتقلص في حدود الخمسة الكبار أي الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن الدولي، وهم الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين والمملكة المتحدة وفرنسا؛ الخماسي الذي يتمتع بحق النقض أو الفيتو.
ترتيبات لا تزال على حالها إلى حين تكشف نتائج الحرب بأوكرانيا؛ الحدث الذي يتوقع مسؤولون غربيون أنه سيغير النظام العالمي القائم، خصوصا أن المشهد بدا قبيل بدء الضربات أشبه بحرب باردة جديدة، بنفس اللاعبين الأساسيين والثانويين.
لكن الفارق يكمن في أن الروس يحاولون هذه المرة إعادة صياغة ترتيبات ذلك الصراع الذي أعقب الحرب العالمية الثانية، وهو ما التقطه الغرب مبكرا ودفعه على ما يبدو إلى عدم "التورط" عسكريا في حرب أوكرانيا، والاكتفاء بتقديم الدعم عن بعد، في محاولة للاحتفاظ بنفس الخارطة.
بوتين يستشرف
في يونيو/ حزيران 2020، كتب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقالا تحت عنوان "75 عاما على النصر العظيم: المسؤولية المشتركة أمام التاريخ والمستقبل"، اعتبر فيه أن "النظام العالمي" لفرساي تسبب في نشوب العديد من الخلافات الضمنية والصراعات الواضحة، التي دارت حول حدود الدول الأوروبية الجديدة والتي رسمها المنتصرون بشكل عشوائي في الحرب العالمية الأولى.
وأضاف أن "من أهم نتائج الحرب العالمية الأولى كان إنشاء عصبة الأمم. كانت آمال كبيرة تترتب على تلك المنظمة الدولية لضمان السلام الدائم والأمن الجماعي"، مستدركا: "إلا أن عصبة الأمم التي تهيمن عليها القوى المنتصرة، أي فرنسا والمملكة المتحدة أثبتت أنها غير فعالة، وغرقت في مناقشات لا طائل من ورائها".
ولفت إلى أن عصبة الأمم والقارة الأوروبية لم تصغيا بشكل عام للنداءات المتكررة من قبل الاتحاد السوفيتي لإنشاء نظام أمن جماعي عادل، معتبرا أن المؤسسة فشلت في منع الصراعات بأنحاء مختلفة من العالم.
استعراض لأبرز عوامل حل عصبة الأمم بدا أن بوتين يلمح من ورائه إلى ما يحدث حاليا وهو إعادة صياغة النظام العالمي بمعايير ستحددها نتائج الحرب على أوكرانيا، ما قد يقود إلى إعادة النظر حتى في المؤسسات الدولية القائمة.
فما بين عصبة الأمم وخليفتها خيط رفيع يصطلح عليه "تحقيق السلام والأمن" حول العالم، حيث فشلت الأولى في تجسيده، فيما لا يزال "بعيد المنال" باعتراف من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، في فبراير/ شباط 2020، حذر فيه "من الرياح المجنونة التي تعصف بعالمنا من ليبيا إلى اليمن، مرورا بسوريا وربما أبعد من ذلك".
وأضاف غوتيريش حينها: "لقد عاد التصعيد من جديد. فالأسلحة تتدفّق، والهجمات تتوالى (...)، في الأثناء، يتم انتهاك قرارات مجلس الأمن قبل أن يجف الحبر الذي كتبت به"، في استشراف يتجسد اليوم ببلوغ الحرب إلى أوروبا الشرقية، ما يراكم عبئا إضافيا على منظمة مثقلة أصلا بالتحديات.
aXA6IDE4LjIxNi45OS4xOCA= جزيرة ام اند امز