يمكن استشراف ما تخطط له الإدارة الأمريكية في الوقت الراهن من منظور الهدف الاستراتيجي التي تعمل عليه
تقف الإدارة الأمريكية في مفترق الطريق، والاختيار ما بين الاستمرار في نهج التسوية المقترحة بمقتضى ما يعرف بصفقة القرن، وبين التوقف لمراجعة مجمل المواقف والتوجهات العربية الحالية بشأن ردود الفعل الراهنة ما بعد الجولة الاستطلاعية التي قام بها مبعوثا الإدارة جيبسون جرنبلات وجاريد كوشنر، والتي انتهت إلى تقييمات متباينة بشأن التعامل مع المشهد العربي بأكمله، والواضح أننا أمام تقييمات جديدة بشأن ما سيجري في الساحة الفلسطينية الإسرائيلية، وارتباطاته بالموقف في الإقليم، وقد يمس باقي القضايا العربية تباعا ..
في كل الأحوال فإن الإدارة الأمريكية ستستمر في مهامها القابلة للتنفيذ ولن تتأخر بالفعل في إنجاز أولوياتها الأمنية والسياسية، سواء حملت اسم صفقة القرن أو تضمنت التفاهمات الأمنية والاستراتيجية المنشودة.
أولا : ترى الإدارة الأمريكية، وأنه بعد تكشف كافة المواقف ومراجعة مجمل السياسات، وإجراء الاتصالات أنه لابد من تحديد الأولويات والمهام الجديدة في المنطقة من منطلق تساؤل مطروح حول إمكانية فرض نموذج الحل على كل الأطراف، بعد إجراء المشاورات والاتصالات على كافة المستويات، أم أن الأمر يحتاج إلى تصويب مسار المشهد الحالي خاصة مع استمرار الرفض الفلسطيني - الطرف المعني بالأساس - بالتسوية الحالية، بل وتصميمه على توسيع إطار التسوية بحيث لا تقتصر على الجانب الأمريكي فقط، وهو أمر لن يتم بسهولة ويسر في ظل الخطاب التصعيدي للرئيس ترامب، ومستشاري الإدارة في مواجهة الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقيادات السلطة الفلسطينية.
ومن الواضح أن المخطط الأمريكي لتصدير أزمة شرعية للسلطة الفلسطينية قد فشلت خاصة وأن المخطط الأمريكي ركز خلال الأسابيع الأخيرة على تكثيف الاتصالات مع بعض الشخصيات الفلسطينية الدولية، والتي لها ارتباطات متعددة في الدوائر الأمريكية، بحيث تبادر بطرح الحل، وليس فقط التركيز على صنع البديل من الخارج قد يُرفَض فلسطينيا في الوقت الراهن، وهو ما أدركته الإدارة الأمريكية بالفعل، وعملت على تطوير وتنمية دور الوساطة غير المباشرة مع السلطة الفلسطينية، والدفع ببعض الأطراف للقيام بدور الوسيط، وهو ما رفضه الرئيس محمود عباس مما يعني أن الإدارة فشلت في التعامل مع المشهد الفلسطيني، سواء بالتعامل مجددا عبر وسطاء، أو باتباع استراتيجية التخويف، ودفع السلطة الفلسطينية لحافة الهاوية .
ثانيا : ستبدأ الإدارة الأمريكية - وهو الأمر الواضح - بإعادة تدوير استراتيجية البدء أولا من قطاع غزة والعمل على إنجاز مسار السلام الاقتصادي سريعا لكي تنقل رسالة بإمكانية الاتجاه إلى التعاون الإقليمي بديلا عن أي تعاون ثنائي طُرح، ولم يلق قبولا من أي طرف وهو ما يمكن فهمه في سياق الترويج لخيار السلام الآن وليس غدا، والعمل على تحقيق مكاسب مرحلية لإقناع الأطراف المختلفة بأن المخطط الأمريكي سيقر واقعا ومستقبلا جديدا في الإقليم، ولن يكون مقصورا على الجانب الفلسطيني الإسرائيلي، وهو ما سيدفع بدول أخرى للتنافس لطرح رؤيتها والبحث في مشاركتها في مسار التحرك الأمريكي بما سيقر واقعا جديدا للمنطقة التي يجب أن تصل إلى حالة من التغيير وفقا للمنهج الأمريكي، وهو أمر سيحتاج إلى بذل مزيد من الجهد من قبل كافة الأطراف .
ثالثا : يمكن استشراف ما تخطط له الإدارة الأمريكية في الوقت الراهن من منظور الهدف الاستراتيجي التي تعمل عليه وفقا لمخطط يستهدف تقليل هامش الرفض العربي مع تحجيم التحفظات العربية التي أبدتها كل من الأردن ومصر تحديدا على ما تسوق له الإدارة الأمريكية، ويصب في اتجاه التغيير الجديد في الإقليم، وهو ما تتحرك من خلاله واشنطن بالفعل في هذا التوقيت وانطلاقا من قطاع غزة، وفي ظل اتفاق أمريكي إسرائيلي حقيقي يسعى لرفع حالة الحصار عن القطاع كهدف تكتيكي مباشر مع البدء في إعادة بناء الداخل على طريقة البدء بالقائم والمتاح، وهو ما لن ترفضه حركة حماس باعتبارها حركة راديكالية نفعية ليس لديها ما ترفضه في الوقت الراهن، وأنها لا تزال في المجمل موجودة في حكم القطاع، ولن تقبل بنصف حل في هذا الوقت، بل ستتفاعل مع المشهد من منطلق أنه لا يوجد بديل. وأن الوضع في القطاع يوشك أن ينفجر، ومن ثم فإن حركة حماس - التي لا تزال في المنظور الإسرائيلي الأمريكي- إرهابية وتمارس الإرهاب في مواجهة إسرائيل تتلقى عرضا بالتهدئة والاستمرار في إدارة المشهد في القطاع مقابل القيام بخطط التأهيل الممكنة تحت إشراف أممي، ومن خلال خطة دولية لإنماء وتطوير القطاع مقابل توقيع هدنة طويلة الأجل ،، والبدء في خطة إعاشة القطاع على كافة المستويات، حيث ستكون الطرف القوي الذي يمكن للجانبين الأمريكي والإسرائيلي التعامل معه، وهو ما تدرك تبعاته حماس جيدا، وأن قبولها بخطة التطوير في القطاع سيدفع بمزيد من تقوية مركزها السياسي والاستراتيجي ليس دوليا فقط وإنما أيضا داخليا في وجه السلطة الفلسطينية، وقد يمثل ذلك خطوة البداية لتنفيذ المصالحة المعطلة من منطق القوة وليس الإجبار أو الضغط السياسي، وهو أمر سيجعل حماس شريكا على قدم المساواة باعتبارها طرفا سياسيا مقبولا من المجتمع الدولي، خاصة أن شروط استيعاب حركة حماس من قبل اللجنة الرباعية بالتعامل والدعم ستكون قد سقطت بالفعل، وستؤدي إلى التعامل المباشر مما سيدفع الحركة للقبول بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية من منطق القوة، وعلى قدم المساواة بالفعل مع حركة فتح .
رابعا : يستطيع الرئيس محمود عباس الدخول على الخط الراهن، ومحاولة إفشال أي مساع جارية للمخطط الأمريكي الإسرائيلي لو قبل من حيث المبدأ التفاوض مجددا أو من خلال اللجنة الرباعية، وهو الأمر الذي قد يعطل مسار التفاوض الراهن غير المباشر بين إسرائيل وحركة حماس، والتي تعمل قطر من خلال السفير محمد العمادي على التوصل إليه عبر آلية محددة.
ولعل الرفض الفلسطيني العام في القطاع والضفة للتحركات الراهنة لقطر ما يؤكد على أن هذا التحرك القطري لا يحظى بدعم داخلي في القطاع، أو بالتأكيد في الضفة خاصة وأن الجانب القطري يتعامل مع ملف التهدئة بين إسرائيل وحركة حماس بنفس قواعد تعامله مع مشروع إعمار القطاع، وهو تصور سيفشل قبل أن يبدأ خاصة وأن أطرافا مثل ألمانيا ومصر وتركيا سبق وأن سعت لأداء دور في ملف تبادل الأسري، وإقرار الهدنة وتثبيتها بصورة دائمة.
والرسالة أن الأطراف الإقليمية مثل قطر وتركيا ستكون مدعوة بقوة للتوصل إلى تفاهمات جديدة في المشهد الراهن، ومحاولة إحداث أكبر قدر من المصالح المباشرة تنفيذا للمساعي الأمريكية ودعم المفاوض الأمريكي في هذا التوقيت الذي قد يعمد لتصدير ملف غزة أولا، والترقب لكل الاحتمالات القادمة التي يمكن أن تشمل الضفة الغربية لاحقا خاصة وأن الرئيس محمود عباس لن يغادر المشهد، وتركه لحركة حماس لتقرر كما أن دولا مثل مصر ستعجل باستنئاف وساطتها في هذا التوقيت لتقريب مساحات التجاذب الراهن بين حركتي فتح وحماس، باعتباره هدفا مصريا وفلسطينيا للوقوف أمام مخطط غزة أولا مع قيام الأطراف العربية المعنية بتأكيد الحضور في المخطط الأمريكي الراهن وعدم الاكتفاء فقط برفضه أو مسايرة الجانب الأمريكي فيما يُخطط مع تأكيد الحضور بأساليب الدعم والتنسيق والطرح، والتفاوض غير المباشر مع الإعلان عن إمكانية المشاركة في التماهي مع الطرح الأمريكي شريطة عدم تقديم تنازلات حقيقية تمس الداخل مثلما جرى في تبعات الموقف الأردني بالأساس، وكذلك بالمواقف المصرية والسعودية والقطرية مع تباين طرح كل طرف بما يمكن أن يؤثر في إدارة المشهد الراهن أمريكيا بصرف النظر عن هامش التحرك الأمريكي، والقبول بأفكاره أو التحفظ على بعضها، وهو ما تتفهم أبعاده الإدارة الأمريكية، وترى أن التصميم في طرح الرؤية الأمريكية ومحاولة تنحية دور بعض الأطراف بما فيها الطرف الأساسي لن يكون جيدا أو صالحا للاستمرار، أو أنه سيكون قادرا على الاستمرار والتماسك في مثل هذه الأجواء التي يمكن أن يطرح فيها المخطط الأمريكي، سواء كان في شكل صفقة كاملة جزئية أو مرحلية في القطاع أو الضفة أو الأثنين معا، وبالتالي فإن الإدارة الأمريكية ستتعامل مع المشهد على مراحل وليس دفعة واحدة .
خامسا : إن التحرك الأمريكي سيمضي في إطار الحرص على مصالح الأمن القومي الإسرائيلي بالأساس، وليس بالتأكيد لمصالح أي طرف عربي، وهو ما يتماشى مع التحرك الإسرائيلي المدروس في الوقت الراهن مع تنفيذ كافة المخططات في الضفة الغربية والقدس وصولا للسعي للانفتاح على الأطراف الإقليمية لما يخدم الاستراتيجية الإسرائيلية في الوقت الراهن، وفي كل الأحوال فإن الإدارة الأمريكية ستستمر في مهامها القابلة للتنفيذ ولن تتأخر بالفعل في إنجاز أولوياتها الأمنية والسياسية، سواء حملت اسم صفقة القرن أو تضمنت التفاهمات الأمنية والاستراتيجية المنشودة، وهو ما يؤكد على أن الإدارة الأمريكية إما أنها ستشرع في تنفيذ رؤيتها، وبدون مراجعة لأي طرف، وإما أنها ستتفق على الانتقال لاستراتيجية بديلة قد تتضح رؤيتها خلال الفترة المقبلة من خلال خطوات كاملة.
والمؤكد أن اسرائيل هي المستفيد الأول والأخير مما يجري خاصة وأن الاستثمار في استمرار الإدارة الأمريكية لولاية قادمة قد تدفع بإسرائيل لتحريك قواعد ايباك، والصوت اليهودي لإتمام وإنجاز المخطط الاستراتيجي على الأرض .
إن بناء مشهد سياسي واستراتيجي جديد في الشرق الأوسط سيكون على حساب المصالح العربية؛ سواء جرت في الأراضي العربية المحتلة أو خارجها، وهو ما قد يؤدي إلى تداعيات باهظة على النظام الإقليمي العربي، وما تبقى من أركانه، الأمر الذي يتطلب تعاملا عربيا مباشرا مع هذه الإدارة الأمريكية بكل شخوصها السياسية التي ستنطلق لتنفيذ أفكارها بصورة واضحة، واتساقا مع رئيس ينفذ وبدقة ما طرحه من رؤى وتصورات بشأن برنامجه الانتخابي الذي فاز بمقتضاه ويمضي في تنفيذ بنوده تباعا، ويأمل أن يدخل من خلال تنفيذه ولاية جديدة ..
فماذا نحن فاعلون ؟؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة