الدولار أسوأ عملة احتياط.. من يدفع ثمن الهيمنة؟
تحوم الشكوك حول احتفاظ الدولار بدور المهيمن كعملة احتياط، وسط تحالفات دولية بين اليوان الصيني والروبل الروسي لسحب البساط من الدولار.
لكن السؤال الأهم قبل تلك الشكوك والذي يفرض نفسه بقوة، من يدفع ثمن الهيمنة؟
من هنا قال تحليل لـ"فورين أفيرز" إن الولايات المتحدة والعالم سيكونون أكثر ارتياحا بعد انتهاء عصر الدولار كعملة احتياط عالمية.
وفي قمة لمجموعة "بريكس" في أبريل/ نيسان الماضي، تساءل الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا أمام حشد كبير عن السبب الذي يستمر من أجله العالم في الاعتماد على الدولار في كل تعاملاته التجارية.. ووسط تصفيق مدو، قال لولا دا سيلفا: "لماذا لا يمكننا التداول على أساس عملاتنا؟ من الذي قرر أن يكون الدولار هو العملة بعد اختفاء معيار الذهب؟".
وقال تحليل نشرته مجلة فورين أفيرز الأمريكية إن خطاب لولا داسيلفا جاء في ظل حالة من الجدل الذي احتدم في السنوات الأخيرة حول مستقبل الدولار الأمريكي باعتباره العملة العالمية المهيمنة.
وأولئك الذين يقولون بتراجع الدولار يعتبرون إنه خلال الـ 600 عام الماضية، صعدت وتراجعت احتياطاتهم تماشيا مع اقتصاداتهم المحلية، دون أن يكون هناك عملة احتياط عالمية. فالعملة الأمريكية هي بحق العملة الوحيدة التي لعبت هذا الدور على مدار التاريخ.
الجانب السلبي لهيمنة الدولار
هناك جانبا سلبيا لهيمنة الدولار. إذ يجب على الولايات المتحدة السماح لرأس المال بالتدفق بحرية عبر حدودها وامتصاص المدخرات واختلالات الطلب في الدول الأخرى والسماح للدول الأخرى بتحويل فائض إنتاجهم ومدخراتهم إلى أصول أمريكية عن طريق شراء العقارات أو المصانع أو الأسهم أو السندات.
ويؤدي هذا بشكل عام إلى انخفاض الطلب العالمي، مما يجبر الولايات المتحدة على تحمل بعض التكاليف مثل ارتفاع معدلات البطالة أو الديون.
ويعتبر التحليل الذي كتبه مايكل بيتيس وهو أستاذ مالية بجامعة بيكنج، أن كل من الولايات المتحدة والعالم بأسره سيستفيدون بدولار أمريكي أقل هيمنة لكن دون حتى اختراع عملة احتياط جديدة.
الذهب والفضة والدولار
وقبل صعود الدولار في النصف الأول من القرن العشرين ، كانت العملات والاحتياطيات التي تمول التجارة تتكون أساسًا من العملات المعدنية متمثلة في العملات الذهبية والفضية.
وبدأت البنوك المركزية في الاحتفاظ بالعملات الأجنبية كجزء من احتياطاتها في القرن التاسع عشر، ومن بينها العملات القائمة علي حجم محدد الذهب أو الفضة وقابلة للتحويل.
وعندما يقول المؤرخون إن الجنيه الاسترليني كان العملة الاحتياطية المهيمنة قبل الدولار الأمريكي، فإنهم يقصدون أن التزام المملكة المتحدة بالحفاظ على قابلية التحويل كان يُنظر إليه على أنه أكثر مصداقية من التزام البنوك المركزية الأخرى، والتي قد تحتفظ بالتالي بالجنيه الاسترليني بالإضافة إلى الذهب.
وفي حقبة ما قبل الدولار، كان دور العملة في التجارة العالمية غير مرتبط إلى حد كبير بقوة اقتصادها المحلي، فقد كانت الولايات المتحدة، أكبر وأغنى اقتصاد في العالم بحلول ستينيات القرن التاسع عشر ولكن ظل الدولار الأمريكي عملة ثانوية حتى عشرينيات القرن الماضي بسبب أن التزامها بقابلية تحويل الذهب كان موضع تساؤل.
وفي مناطق واسعة من أمريكا اللاتينية وآسيا، لم تكن العملة المهيمنة للتجارة هي عملة قوة اقتصادية كبرى على الإطلاق حيث سيطر البيزو الفضي المكسيكي حتى على الجنيه الاسترليني في التجارة الدولية خلال معظم القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بسبب نقاء وجودة الفضة المكسيكية.
التجارة العالمية
لم يكن هذا هو الاختلاف الوحيد، بل أنه تم تنظيم التجارة العالمية وتدفقات رأس المال بشكل مختلف تمامًا في العالم القديم عما هو عليه اليوم الذي يهيمن عليه الدولار. ففي السابق، كانت الاختلالات التجارية محدودة بقدرة كل دولة على إدارة التحويلات النقدية والمعدنية .
وبغض النظر عن حجم اقتصاد الدولة أو مدى قوة بنكها المركزي، يمكن استخدام عملتها لتسوية التجارة فقط بقدر مرونتها في التحويل للقطع النقدية المسكوكة.
ومن أبرز إيجابيات النظام القديم أن التجارة في كل بلد كانت متوازنة على نطاق واسع و كانت النتيجة الأخرى الأكثر أهمية هي أن العملية التي تم من خلالها موازنة التدفقات التجارية عملت بشكل متماثل في كل من البلدان ذات الفائض والبلدان التي تعاني من عجز.
أما النظام الحالي القائم على الدولار فهو مختلف جدا. ففي هذا النظام ، تقتصر الاختلالات بشكل أساسي على رغبة الولايات المتحدة وقدرتها على تلبية المطالبات على أصولها المحلية أي السماح لحاملي رأس المال الأجنبي بأن يكونوا بائعين أو مشترين للعقارات والأوراق المالية الأمريكية والنتيجة هي أن تلك الدول يمكن أن يكون لديها فوائض أو عجز كبير ومستمر.
والأسوأ من ذلك، أن التأثير الانكماشي للعجز على الاقتصاد العالمي لا يقابله التوسع في الدول ذات الفائض، كما كان الحال في أنظمة ما قبل الدولار، ولذلك، رفض الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز بشدة نظام تجاري عالمي يُسمح فيه باستمرار الفوائض أو العجز في مؤتمر بريتون وودز في عام 1944، لكن المسؤول الأمريكي الكبير في المؤتمر ، هاري ديكستر وايت ، عارضه بشدة.
ومنذ الثمانينيات، استوعبت الولايات المتحدة فوائض الدول الأخرى من خلال السماح بتحويلها بسهولة إلى أصول أمريكية.
و نتيجة لذلك، يسيطر الدولار علي التجارة الدولية، لكن الاقتصاد الأمريكي مجبر على امتصاص ضعف الطلب من الخارج، إما عن طريق زيادة البطالة المحلية أو من خلال تشجيع ارتفاع ديون الحكومة الأمريكية والأسر .
الدولار الذي لا غنى عنه
وهذا لا يعني أن الولايات المتحدة يجب أن تعاني دائمًا من عجز لربط نظام التجارة العالمي بالدولار و لكن هذا يعني أنه عندما يحتاج العالم إلى المدخرات "تصدر" الولايات المتحدة المدخرات وتدير الفوائض التجارية ، وعندما يكون لدى العالم مدخرات فائضة ، تستورد الولايات المتحدة المدخرات وتواجه عجزًا تجاريًا.
وقامت الولايات المتحدة بالخيار الأول خلال الفترة من عشرينيات القرن الماضي حتى السبعينيات، وهي فترة خمسة عقود حيث كانت خلالها العديد من الدول بحاجة ماسة إلى إعادة بناء القدرة التصنيعية والبنية التحتية التي دمرت في الحربين العالميتين.
ومع انهيار الدخل الأوروبي والآسيوي بسبب الصراع ، احتاجت الدول في هذه المناطق إلى مدخرات أجنبية للمساعدة في إعادة بناء اقتصاداتها وقد تحركت الولايات المتحدة بسرعة لتلبية الحاجة من خلال تصدير المدخرات الزائدة خاصة أن الولايات المتحدة كانت الدولة الرائدة في العالم من حيث الفائض، مما جعل الدولار هو العملة العالمية المهيمنة في هذه العملية.
لكن بحلول أوائل السبعينيات، كانت معظم الاقتصادات الرائدة في العالم قد أعادت بناء نفسها بعد ويلات الحرب وأصبح لديهم مدخرات خاصة بهم يحتاجون إليها لدفع اقتصاداتهم إلى أعلى ولذلك كانت الولايات المتحدة استوعبت الكثير من المدخرات الفائضة لبقية العالم من خلال انفتاحها على رأس المال الأجنبي، وأسواقها المالية المرنة.
و كانت النتيجة أنه في السبعينيات عندما بدأت الفوائض الكبيرة في الولايات المتحدة تشهد تراجع، أدي ذلك بحلول الثمانينيات لعجز كبير ومستمر استمر حتى الان.
لا يمكن لأي عملة أخرى أن تحل محل الدولار
ويدعم هذا الاستعداد للسماح بتدفق رأس المال بحرية وامتصاص المدخرات واختلالات الطلب لبقية العالم -الدور المهيمن للدولار ولذلك لم تهيمن أي عملة أخرى على التجارة الدولية وتدفقات رأس المال كما يفعل الدولار اليوم.
ولا توجد دولة أو مجموعة دول في العالم مستعدة للعب هذا الدور أو ستكون قادرة على ذلك دون إجراء إصلاح جذري لنظامها المالي، وإعادة توزيع الدخل المحلي، وإلغاء ضوابط رأس المال..
ولكل هذه الأسباب، لا يمكن لأي عملة أخرى أن تحل محل الدولار الأمريكي. وعندما ينتهي حكم الدولار في النهاية، سينتهي كذلك نظام التجارة العالمية ورأس المال الحالي.
وفي حال توقفت الولايات المتحدة عن امتصاص ما يصل إلى 80٪ من فائض الإنتاج والمدخرات في الدول ذات الفائض مثل البرازيل والصين وألمانيا وروسيا والسعودية سوف يؤدي ذلك بالدول أنها لن تعود قادرة على إدارة الفوائض.
وبدون فوائض، سيضطرون إلى خفض الإنتاج المحلي حتى لا يتجاوز الطلب المحلي الضعيف مما يعني إن الاستخدام الواسع للدولار فقط هو الذي سمح بالاختلالات الهائلة التي شهدها الاقتصاد العالمي خلال الخمسين عامًا الماضية.
عالم ما بعد الدولار
ومسألة أن الدولار لا غنى عنه - ليس بالشيء الجيد ، سواء للولايات المتحدة أو لبقية العالم حيث سيكون الاقتصاد العالمي في وضع أفضل إذا توقفت الولايات المتحدة عن استيعاب اختلالات المدخرات العالمية التي سمحت للاقتصادات ذات الفائض بخفض الطلب العالمي.
ومن المتوقع أن يستفيد الاقتصاد الأمريكي بشكل خاص لأنه لم يعد مضطرًا إلى استيعاب آثار السياسات التجارية في الدول ذات الفائض من خلال ارتفاع معدلات البطالة أو زيادة الديون مما يؤدي ان تنمو الشركات الأمريكية بشكل أسرع ، وسيكسب العمال الأمريكيون المزيد.
ولكن الوصول إلى عالم ما بعد الدولار لن يكون سهلاً لإن الجزء الأكبر من الجدل الدائر حول الزوال النهائي للدولار هو إلى أي مدى سيكون التغيير مدمرًا اقتصاديًا بالنسبة الدول ذات الفائض المستمر، والتي سيتعين عليها تقليص حجم الصناعات بأكملها بشكل كبير والتي يتم توجيهها حاليًا إلى الصادرات.
ويستلزم بناء هياكل مختلفة جذريا للتجارة وتدفقات رأس المال حيث أنه على الرغم من أن هذه قد تكون أكثر استدامة وفائدة للاقتصاد الأمريكي على المدى الطويل، إلا أن تبنيها سيكون مؤلمًا لاقتصادات الفائض في العالم.
أما الإجابة على سؤال لولا دا سيلفا حول من حدد الدولار الأمريكي كعملة احتياطية عالمية، فهو أمر مثير للسخرية لأن دول الفائض مثل البرازيل والصين هي من حددت النظام الحالي المستند على الدولار.
ورغم تنديد الدول بهذا الوضع إلا أن أحدا ليس في عجلة من أمره لقلب النظام الحالي.
ولن يكون أمامها وبقية العالم خيار سوى قبول الهيمنة المستمرة للولايات المتحدة والدولار . وذلك حتي أن تقوم هذه الدول بإجراء تغييرات جذرية في اقتصاداتها المحلية أو حتى تقرر الولايات المتحدة أنها لن تدفع التكلفة الاقتصادية الباهظة لأداء دورها في تكييف الاقتصاد العالمي .