تدخل العلاقات الأمريكية الصينية مرحلة جديدة من الصدام المتوقع إثر الانخراط الأمريكي مع كل من بريطانيا وأستراليا في حلف "أوكوس".
يأتي هذا بالإضافة إلى عمل أمريكا مع كل من الهند واليابان، في إشارة إلى إمكانية التحول نحو صراع متعدد الأقطاب، محوره الرئيسي مواجهة الصين، الأمر الذي يجب النظر إليه على أنه حرب باردة مستجدة بين الجانبين الأمريكي والصيني، ستؤثر على كثير مواقف الدول الأخرى، ولن تتوقف عند فرنسا بعد إلغاء صفقة غواصاتها لأستراليا.
المتضرر الأكبر في ذلك لن يكون الاتحاد الأوروبي بدوله ووحداته السياسية فقط، وإنما الدول الأخرى الحليفة للولايات المتحدة في أماكن مختلفة من العالم، إذ من الواضح أن السياسة الأمريكية ستُعيد ترتيب العالم انطلاقا من مصالحها الكبرى تحت شعار "مَن ليس معنا فهو ضدنا" مرة أخرى.
فعليا سيكون هناك استقطاب سياسي واستراتيجية عسكرية ستتجاوز ما هو قائم من محاور أو أحلاف، وهو ما سينطبق على حلف الأطلسي ودول الاتحاد الأوروبي، التي لا تزال تعمل تحت المظلة الدفاعية الأمريكية.
إن اتجاه الإدارة الأمريكية شرقا يؤكد مصالحها العليا في الإقليم الآسيوي المضطرب، الذي لا يزال يواجه عدم استقرار ويحتاج إلى ضوابط حقيقية حاكمة، وليس العمل من أعلى، بحسب الرؤية الأمريكية، وهو ما تدركه الصين بالطبع، ولن تقف أمامه دون أن تقدم على اتخاذ سياسات مباشرة، وهو ما ينطبق على تعاملاتها في الإقليم وخارجه، مع حشد أكبر عدد من الدول المؤيدة لها في إطار من المصالح المفتوحة، التي ستشمل كل الأطراف.
وبرغم أن سويسرا ليست عضوا في الاتحاد الأوروبي، فهي من الدول الموقعة على 120 اتفاقية ثنائية مع الاتحاد، لكنها أقدمت فجأة على إلغاء صفقة شرائها طائرات "رافال" من فرنسا، بعد أن استقرت على شراء طائرات "إف-35" من الولايات المتحدة.
كل دولة إذاً في النطاقات الأوروبية والآسيوية ستعمل على مصالحها أولا، ثم مصالح حلفائها لاحقا.
سيجري الأمر داخل حلف "الأطلسي" بصورة أوسع، حيث ستتصدر فرنسا وألمانيا واجهة الأزمات المتلاحقة، فبعد أستراليا وسويسرا قد تأتي دول أخرى في الفترة المقبلة، ما سيؤثر على مستقبل الصناعات العسكرية الفرنسية وتحالفاتها الراسخة، وليست صفقة الغواصات وحدها، كما أن هذا الأمر سيؤكد ضرورة إيجاد نقاط توازن للسياسات الأوروبية في مواجهة ما يجري أمريكيّا، خاصة أن العلاقات الأوروبية-الصينية جيدة، حيث لا يعمل الجانبان على خيارات مواجهة أو صدام، مثلما الحال مع السياسة الأمريكية.
وبالتالي، فإن استراتيجية الرئيس الأمريكي جو بايدن ستبدأ فعليا بما تم مع أستراليا وبريطانيا، حليفي الولايات المتحدة، ما يؤكد نقل الاهتمام الأمريكي من الشرق الأوسط والمحيط الأطلسي نحو المحيطَين، الهادئ والهندي، لمواجهة الصين.
التحرك الأمريكي يحظى بقبول ودعم بريطاني لافت، نظرا لمحاولة لندن الخروج من حالة العزلة الراهنة بعد "بريكست"، إضافة إلى سعي الحكومة البريطانية للحصول على دعم أمريكي مباشر في مواجهة ما يجري أوروبيا ودوليا، لذا فإن الإدارة الأمريكية لن تضع في حساباتها مراعاة ما يمكن أن يجري في حلف الناتو أو خارجه.
من الواضح أيضا أن الإدارة الأمريكية ستعمل على تطويق ومحاصرة الحضور الصيني سياسيا واستراتيجيا واقتصاديا، ما يؤكد أنها ستنتهج أسلوب العمل من جانب واحد دون إخطار حلفائها، فما جرى في التعامل مع فرنسا في صفقة الغواصات سيجري أيضا مع أي طرف أوروبي أو آسيوي، بصرف النظر عن تصريح وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، بعكس ذلك، حين قال: "اتفاق أوكوس مع أستراليا وبريطانيا تمت مناقشته قبل توقيعه".
على جانب آخر، فإن مسعى واشنطن لإدخال الهند في إطار المواجهة مع الصين له قيمته، فالهند كما قال وزير الدفاع الأمريكي، لويد أوستن، "شريك في الموجة الأمريكية الراهنة"، كما أن القمة الافتراضية، التي ضمت "بايدن" ورؤساء حكومات أستراليا والهند واليابان، تؤكد ذلك التوجه لضم الهند ودول أخرى للحلف، بصرف النظر عن أي تعاون اقتصادي أو الاتفاق على مشروعات جديدة.
واضح أن الإدارة الأمريكية ساعية بالفعل لإنشاء شبكة شراكات دون أن تتدخل في كل تفاصيلها، مع مراعاة تحالف الهند مع روسيا عبر نية "دلهي" شراء صفقة أسلحة روسية، وهي الصفقة التي طلبت واشنطن من الهند وقفها، حيث يخضع الاتفاق الروسي-الهندي لحظر أمريكي وعقوبات، فيما تُجري الهند مفاوضات ممتدة لتجنب تلك العقوبات الأمريكية، كما جرى مع حالة تركيا، العضو في حلف الأطلسي، عندما طلبت شراء منظومة "إس-400" من روسيا.
ستنتقل الصين إذاً من مجرد انتقاد ما يجري أمريكيّا وبريطانيّا وأستراليّا إلى اتخاذ إجراءات وتدابير انفرادية في المقابل، وهو ما يتبناه الحزب الشيوعي الصيني الحاكم بـ"ضرورة التصعيد"، عبر بناء شبكة تحالفات مهمة وقادرة على المواجهة لإعادة ترتيب الأولويات والخيارات الصينية الراهنة، ومنها التلويح بالخيارات التصاعدية في مجال انتشار الأسلحة النووية، وضبط التسلح، وترتيبات الأمن الإقليمي في منطقة جنوب شرق آسيا، وربما لن يكون الرد الصيني في دائرة واحدة، بل ربما يمتد إلى دوائر متعددة في إطار شبكة تحالفات، أرست الصين قواعدها منذ سنوات قبل أن تلوح المواجهة الأمريكية الحالية، والتي يعمل الجانب الصيني للتضييق على مخططاتها.
سيمتد الأمر كذلك إلى إعادة ترتيب الأولويات الأمريكية في إطار علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي وروسيا، وبعض الأطراف الإقليمية الأخرى، منها إيران وتركيا وفرنسا.
لقد حاول الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، أن يصوّب مسار العلاقات الاقتصادية والاستثمارية مع الصين، لكنه فشل في إتمام ذلك، لكن اتجاهات العلاقات الصينية-الأمريكية، بعد التطورات الدراماتيكية الجديدة لتحركات الولايات المتحدة، ستُسقط كثيرا من الثوابت، التي تعامل بها الجانبان، الصيني والأمريكي، منذ سنوات، فيما يبقى الخاسر الأكبر مما يجري هو الطرف الأوروبي، وليس فرنسا وحدها رغم خسائرها الاقتصادية، فالخسارة الاستراتيجية هنا هي الأهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة