التسريبات عن انسحاب أمريكي محتمل من سوريا جاءت هذه المرة من واشنطن.
فتحَ الحديثُ عن هذا الاحتمال، المجالَ أمام تكهنات لا حصر لها حول الدوافع والغايات الأمريكية في حال حدوثه، وعن مصير القوى السورية المحلية المنضوية تحت راية القوات الأمريكية والتي تعمل بوحي مصالحها.
أبعد من ذلك؛ هل فعلا إدارة بايدن جادة في تنفيذ هذا السيناريو؟ هل يُعقل أن تنشئ بانسحابها فراغاً يملأه أعداؤها الروس وخصومها الإيرانيون؟ ما الذي حققته الولايات المتحدة حتى الآن من وراء وجودها على الأرض السورية؟.. تنظيم داعش، الذي ادعت واشنطن أنه السبب الوحيد لقرارها الانخراط في الأزمة السورية لم يندثر، وهجمات عناصره لم تنقطع أو تتوقف، "دويلة الهول" تزدحم بآلاف الأعضاء المعتقلين من التنظيم، رجالا ونساءً وأطفالا.
أسئلة تتداعى بسلاسة دون عوائق، لكن أجوبتها تتأرجح بين الممكن واللا معقول.
مفرزات الواقع المتغير على الساحة السورية تفرض بدون شك تبدلات تطال أولويات اللاعبين تبعا لمصالح كل واحد منهم.
انتهجت السياسة الأمريكية في سوريا طريقين لضمان تحقيق أهدافها، الأول يمكن وصفه بالتأسيسي أو التبريري لوجودها كقوة عسكرية على الأرض، فاختارت لتموضعها مناطق سورية متخمة بالميزات الجيواستراتيجية؛ كان أولها في الجزيرة السورية، أو ما تعرف بمنطقة شرق الفرات.
أقامت أكثر من 25 قاعدة عسكرية ونقطة مراقبة، منطقة تكتنز ثروات نفطية وغازيّة ومائية وزراعية وحيوانية هائلة في حجمها وفي تنوعها، فضلا عن موقعها الجيوسياسي الأهم، إذ تشكل مروحةً للتواصل مع أوروبا من الشمال عبر تركيا، وإلى إيران شرقاً عبر بوابة العراق، دون إسقاط اهتمامها بخصوصية مكونات مجتمع الجزيرة السورية، الدينية والمذهبية والعرقية والحضارية التاريخية والقبلية، وأهميتها بالنسبة لمنطلقات فلسفة الهيمنة الأمريكية، وقد اتضحت بشكل صارخ في عملية إدارتها غير المباشرة لتلك المنطقة ومكوناتها، ووفرت لها ضمانات متنوعة لتكريس هيمنتها؛ أتبعت ذلك بإنشاء قاعدة صحراوية في منطقة التنف عند المثلث السوري الأردني العراقي، بحيث يمنحها وجودها في هذا المثلث مرونة كبيرة في تحقيق أربعة أهداف بعيدة المدى؛ أولها طمأنة الحليف الأردني بشأن عدم تعرضه لأي مخاطر ومنعكسات مباشرة للصراع الإقليمي والدولي في سوريا وعلى سوريا.
ثاني الأهداف هو توسيع حرية تحركاتها بين قواعدها في البلدين الجارين سوريا والعراق، وفي ثالث الأهداف تعزيزٌ لقدرتها في السيطرة المباشرة على الخطوط البرية التي تسعى طهران وتعمل على توظيفها من خلال ربط إيران بالمشرق العربي عموما؛ من بغداد إلى دمشق فبيروت، في حين يتمثل الهدف الرابع في استراتيجيتها الرامية إلى التأثير على واقع سوريا ومستقبلها، وفرض رؤيتها وتصوراتها عليها وعلى اللاعبين المنخرطين في الصراع جميعهم، روسيا وإيران وتركيا، سواء في حالة استمرار الصراع، أو عندما يحين الجلوس على طاولة التفاوض.
أما الطريق الثاني في سياسة واشنطن تجاه سوريا فقد تركز على العمل من أجل بناء منظومة متنوعة من العلاقات والتحالفات مع بعض القوى السورية المحلية بطريقة انتقائية ترمي إلى تلبية متطلبات مصالح واشنطن بالدرجة الأولى، وتضفي عليها بالمقابل مظلة حماية تحافظ من خلالها على كياناتها الهشة التي استولدتها، وتغذي بالدرجة الثانية نزوات أو نزعات انفصالية محدودة الأفق، وممنوعة من الصرف بسبب عوامل عديدة متجذرة في البيئة المحيطة بها من النواحي الجغرافية والسياسية والأمنية والاجتماعية.
يظن البعض أن تحالف واشنطن مع "قسد" هو الممر الوحيد الذي سلكته الولايات المتحدة في الداخل السوري لتمرير مشاريعها منذ الاستحواذ على موطئ قدم لها في شمال شرق سوريا ورعايتها لـ"قسد"، وفي جنوبها الشرقي وإدارة مجموعة سورية مسلحة أخرى، وكأنها تخطط لوضع المنطقة الواقعة بين الشمال والجنوب بين فكي كماشتها حين تشاء.
في حقيقة الأمر؛ لم يتوقف سعيها على اختراع "قسد"، فقد ذهبت واشنطن في هذا المسار مذهبا مشابها مع عدد من فصائل المعارضة السورية المسلحة، فاستقطبت عددا منها وشكلت جسما واحدا لها في قاعدة التنف وفي المنطقة الصحراوية المحيطة بها أو ما بات يعرف "بمنطقة الـ55"، وأوكلت لكل ذراع منهما، "قسد" في الجزيرة السورية، وما يطلق عليه "جيش سوريا الحرة" في صحراء التنف، وظيفةً محددة تخدم مصالح الولايات المتحدة في سوريا من حيث إطالة أمد الصراع، وتوظيفهما في المناكفة في الداخل السوري، أو من حيث تهديد وحدة وسيادة سوريا .
جملة من الحقائق الماثلة، تضع سيناريو الانسحاب الأمريكي المزمع من سوريا في خانة التكهنات والرغبات على الأقل في المدى المنظور.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة