تمرير الراية لأوروبا.. أمريكا بين إعادة التموضع وتقليص النفوذ

تشهد أوروبا اليوم لحظة تبدو مواتية أكثر من أي وقت مضى لإعادة ترتيب منظومة الأمن القاري، بحيث تنتقل المسؤولية تدريجيا من الولايات المتحدة إلى الأوروبيين أنفسهم.
فبعد مرور ثلاثة عقود على انهيار الاتحاد السوفياتي، لا تزال واشنطن تتحمل العبء الأكبر في حماية أوروبا، بل وتوسعت التزاماتها لتشمل جميع دول حلف وارسو السابقة.
ووفقا لمجلة «فورين بوليسي»، لم يتراجع الحضور الأمريكي العسكري في أوروبا منذ الحرب الباردة وحتى اليوم، بشكل جذري، بل ظل قائما عند مستويات مرتفعة تتراوح بين 50 و75 ألف جندي في الظروف الطبيعية، وارتفع إلى نحو 100 ألف جندي بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا عام 2022.
ويتمركز معظم هؤلاء في ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة، بينما باتت وحدات إضافية تنتشر "بشكل دوري" في دول أوروبا الشرقية، وهو انتشار مؤقت في الاسم ودائم في الواقع.
غير أن الأهمية لا تكمن فقط في العدد، بل في كون الولايات المتحدة هي المصدر التكنولوجي واللوجستي للقوات الأوروبية، إذ لا تزال هذه الأخيرة تعاني فجوات كبيرة في مجالات حيوية مثل الاستطلاع والاستخبارات والمراقبة (ISR)، والنقل الجوي، والتزود بالوقود.
وقد كانت تجربة ليبيا عام 2011 أوضح مثال على ذلك: تدخل عسكري أرادته أوروبا، لكنها لم تستطع المضي فيه دون الاعتماد على الذخائر الأمريكية والدعم الاستخباري واللوجستي الأمريكي.
«ضامن أخير» لا «شريك مباشر»
وتدعو التحليلات الواقعية إلى أن تظل واشنطن حاضرة كـ«ضامن أخير»، لا كفاعل مباشر في القتال.
وهذا يعني أن تقدم الولايات المتحدة السلاح والمظلة النووية بشكل مؤقت، بينما تتحمل الدول الأوروبية مسؤولية سد الفجوات الدفاعية وبناء منظومة قادرة على مواجهة روسيا، باعتبارها الخطر الخارجي الأوضح.
ورغم المخاوف من أن يؤدي تقليص الدور الأمريكي إلى سباق نووي أوروبي، إلا أن ذلك يظل احتمالا ضعيفا. فالتعهدات البريطانية والفرنسية يمكن أن تكون مقبولة مثل التعهد الأمريكي، وإن حدثت بعض التحركات المحدودة نحو الانتشار النووي الأوروبي فلن تمس بشكل مباشر المصالح الأمريكية.
عجز أوروبي وتوقيت حاسم
المفارقة أن الحرب الروسية في أوكرانيا فتحت نافذة انتقال آمن نحو "أوروبا أكثر اعتماداً على ذاتها"، لكن معظم الدول الأوروبية لا تزال تفضل إلقاء العبء على الولايات المتحدة، متجنبة مشكلات العمل الجماعي المعقدة.
ويصف معهد الدراسات الاستراتيجية (IISS) الوضع الحالي بالشلل، حيث لم تتحقق بعد برامج تسليح كبرى أو مبادرات جادة لردم الفجوات الدفاعية.
وهنا تبرز أهمية التوقيت، فالانسحاب المفاجئ لواشنطن قد يترك فراغا تستغله روسيا سريعا، لكن انسحابا تدريجيا على مدى عقد يمنح الأوروبيين فرصة التكيف.
وقد تبدو عشر سنوات إطارا زمنيا واقعيا، إذ تحتاج الجيوش البرية والجوية الأوروبية إلى 8–12 عاما لبناء قدرات حقيقية، بينما قد يستغرق تحديث الأساطيل البحرية فترة أطول (15–20 عاما).
استراتيجيات «من أسفل إلى أعلى»
تشير التجارب إلى أن الاتحاد الأوروبي عاجز عن توفير إجماع سياسي كامل في الملفات الدفاعية. لذا، قد يكون الحل الأكثر فاعلية هو السماح للدول الأوروبية بتعزيز قدراتها أولا ثم بناء تكتلات إقليمية فرعية: مثل تحالف دول البلطيق وبولندا ضد روسيا، أو دول البحر الأسود، أو جنوب أوروبا في مواجهة أزمات الهجرة وعدم الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
هذه التكتلات قد توفر بدائل عملية أسرع من انتظار قرارات جماعية معقدة.
وعلى المدى البعيد، فإن مصلحة واشنطن تكمن في وجود دفاع أوروبي فاعل، بغض النظر عن الجهة التي تديره - الناتو أو الاتحاد الأوروبي أو مزيج من الاثنين.
ومع أن بناء دفاع مشترك قد يستغرق جيلا كاملا، يمكن أن يبدأ نقل العبء إلى الأوروبيين الآن ويكتمل خلال عقد واحد إذا توافرت الإرادة السياسية.