الرهانات على أن الرئيس ترامب سيستمر في مهامه وعمله، وسياسته مطبقا ما جاء في برنامجه الانتخابي بدقة ستحتاج إلى تقييمات.
تتجه أنظار العالم لمتابعة ما يجري في واشنطن، فلأول مرة يتحدث الرئيس ترامب بعد 19 شهرا عن إمكانية عزلة من موقعه، وهو ما سيكون له تأثيرات مالية واقتصادية كبيرة حسب قوله، والواقع يشير إلى أننا أمام تطورات دراماتيكية حقيقية قد تهدد بالفعل استمرار حكم الرئيس ترامب في البيت الأبيض، وقد تؤدي به إلى سيناريو آخر ربما قد تدفعه لعدم الترشح في الولاية الثانية رغم تنويهه المسبق.
علينا أن نتبع استراتيجية استباقية حقيقية في تهميش وتقليل الخسائر والسلبيات في التعامل مع الرئيس ترامب وإدارته، خاصة أن ما سيتحرك فيه الرئيس من مجالات وأطر حقيقية سيؤثر علينا وعلى قضايانا العربية بل على مستقبل الإقليم بأكملهأولا: هناك مقاربات نظرية عديدة بشأن إمكانية الإطاحة بالرئيس الأمريكي من موقعه وتولي نائبه مايك بنس أو مثوله أمام لجنة التحقيقات بالكونجرس، أو استدعائه من المحكمة الفيدرالية العليا، أو غيرها من الإجراءات الفيدرالية، مما يشير إلى أن الرئيس قد يواجه العزل القضائي والسياسي معا، وليس فقط توجيه الاتهامات السياسية والقانونية، خاصة أن النظام الأساسي الفيدرالي معقد للغاية، ولن يطول الرئيس بسهولة في ظل رهانات حقيقية على بقائه في موقعه على الأقل في الولاية الحالية، وفي ظل أي محاكمات قد تطول لمدة عامين كاملين، وهو ما يشير إلى أن الرئيس ترامب سيستمر في موقعه تحت أي ظروف، ولن تقوم الأجهزة السيادية الأمريكية بتبني خطة عزله أو اتهامه بالخيانة أو التقصير، أو تجاوز دوره وهو ما قد يؤدي بالفعل إلى استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه ولن يتغير .
ثانيا: رغم كل الرهانات على أن الرئيس ترامب سيستمر في مهامه وعمله وسياسته التي عمل بها حتى الآن، مطبقا ما جاء في برنامجه الانتخابي بدقة، إلا أن هذا الأمر سيحتاج إلى تقييمات، ومن يراجع ذلك يكتشف أن الرئيس ترامب اتسق فكرا وسياسة مع هذا البرنامج سواء في الشرق الأوسط أو خارجه، مما يشير إلى أن الرئيس ترامب لن يتراجع عن هذه السياسة بل بالعكس سيستمر في توجهاته على الأقل الخاصة بالسياسات الداخلية التي اكتسب من خلالها حضورا سياسيا كبيرا، وتزايدت شعبيته بصورة كبيرة مما يشير إلى أن الرئيس لن يخالف ما مضي من عمله، وعمل من خلاله، ولكن المشكلة ستكون من خلال ما تم التوافق بشأنه، فالرئيس ترامب اليوم غير الرئيس ترامب منذ 19 شهرا، مثل خلالها ظاهرة عالمية لرئيس قادم من خارج المؤسسة الأمريكية الرسمية، وأجهزة الدولة الكبيرة والعتيقة التي تستطيع أن تطوع الرئيس في كل الأحوال، وتتعامل معه من منطق أن الرئيس جزء من منظومة، وفي الوقت نفسه هذه المؤسسات قادرة على الدفع به إلى ساحة المواجهة والتعامل، ومن ثم فإن الرئيس ليس سهلا عليه أن يدخل في مواجهات صفرية، ومن ثم فإن استراتيجية المواجهة واردة وبقوة، وفي ظل تغير معادلة الواقع السياسي الراهن على المستوى الأمريكي .
ثالثا: سيكون هناك عديد من التغييرات المتوقعة في نمط العلاقات العربية الأمريكية، خاصة أن الإدارة الأمريكية ستواجه بإعصار التغيير القادم من الشرق الأوسط في ظل ما يجري في الإقليم من متغيرات حقيقية ستمس كل الأطراف والفعاليات السياسية التي ما تزال في مرحلة السيولة، ومن المؤكد أن الرئيس ترامب وفريق عمله لن يكون في حال استمراره مثلما بدا في بدايات الولاية الأولى، وكان لديه نشوة الحكم والعمل من أعلى مع فرض خياره للتسوية من خلال ما عرف بصفقة القرن التي تعثرت تماما، ولم يعد الحديث الأمريكي عن البدائل والخيارات التي يمكن طرحها في ظل قواعد عمل جديدة إلى أن أصبحت مسألة إنسانية في قطاع غزة، ومن المتوقع أن تستمر التدخلات الأمريكية في الشرق الأوسط، ولكن كطرف ضمن أطراف، ومن خلال قواعد سياسية جديدة، وهو ما يشير إلى احتمالات غلق باب التغيير المطروح في الإقليم والحديث المباشر عن السلام البديل أو السلام الاقتصادي أو التعاون الإقليمي، الأمر الذي يشير إلى أن مستقبل القضايا السورية واليمنية والليبية سيكون محل نظر وإعادة تركيب وتدشين لتحالفات أخرى، كما لن تسعى الإدارة الأمريكية بوضعها الراهن لمراجعة حساباتها السياسية والاستراتيجية، بل العمل من خلال استراتيجية تحفظية حقيقية، وهو ما سيدفع بالفعل لإعادة بناء استراتيجية أمريكية ربما ستكون جديدة في الفترة المقبلة في حال استمرار ملاحقة الرئيس ترامب بقضايا جديدة أو البدء إجرائيا في الاقتراب من صلاحياته السياسية والدستورية بصرف النظر عن إطارها أو شكلها السياسي المتوقع.
رابعا: هناك تصور مقابل لما سبق وطرحناه يقوم على ضرورة النظر من زاوية جديدة مخالفة، وهي أن الرئيس الأمريكي وفريق إدارته لن ينحنوا للعاصفة بل سيعملون على مواجهة ما يجري بمزيد من الإجراءات الانفرادية المتطرفة، والتي ستبدأ بإسقاط حق العودة والدعوة لإلغاء نص قراري 193 و194؛ القاضي بعودة اللاجئين إلى أراضيهم، وتمر بعقد سلسلة من الاتفاقيات السياسية الشارعة مع إسرائيل تقر الشراكة شكلا ومضمونا إلى 100 عام قادمة بين واشنطن وتل أبيب، ومن ثم سيكون التحرك الأمريكي في هذا الإطار منصبا على استراتيجية هجومية، وتبني الخيارات المتطرفة التي قد تؤدي إلى مزيد من الأزمات السياسية الجديدة في المنطقة، كما قد يعمل الرئيس ترامب على التصعيد في الملف السوري، وعدم الإقدام على ترك مساحة من الحركة للجانب الروسي، إضافة لتبني إجراءات رادعة مع الجانب التركي تحديدا ربما تتجاوز حدود الشراكة الاستراتيجية، وربما تخل بقواعد عمل الحلف في مراكزه الإقليمية الاستراتيجية، ومن ثم فإن هذا النموذج سيعمل من خلال إجراءات رادعة أمريكية تؤكد نهجا عدوانيا حقيقيا قد يعمل من خلاله الرئيس ترامب، سواء فيما تبقى من عمر الولاية الأولى وصولا إلى احتمال حصوله على ولاية ثانية اعتمادا على الـ43% من الشريحة المجتمعية التي يستند إليها، ويسعى بالفعل للتحرك والإنجاز من خلالها وفقا لرؤيتها السياسية والاستراتيجية المتكاملة، خاصة أن نجاح الرئيس ترامب في ولاية ثانية قد يؤدي إلى صعود مراكز المال والسلطة الجديدة، إضافة لمجموعات من اللوبيهات التي تتركز في عدد من ولايات المال والسلطة في الولايات المتحدة بما فيها اللوبي اليهودي الفاعل، والذي سيؤدي دورا في الدفاع عن الرئيس ترامب، خاصة أنه حقق لإسرائيل ما لم يحققه أي رئيس آخر، ومن ثم فإن الدفاع عنه سيكون دفاعا عن رئيس قدير في نظر اللوبي اليهودي المباشر.
خامسا: في كل الأحوال علينا أن نستعد في التعامل مع الرئيس ترامب بواقع جديد ربما يسعى للذهاب بكل الخيارات إلى الأسوأ، وهو أمر متوقع في إطار معادلة القوى التي يحكمها فكره الإيديولوجي ونسقه العقيدي الذي ينطلق من مبدأ التكلفة والعائد والمكسب والخسارة، وهو ما سيؤدي إلى مزيد من الحسابات المعقدة للرئيس وخياراته، وقد يذهب إلى خيارات من الابتزاز السياسي، وهو أمر ليس غريبا على رئيس يفكر من منطق إحصائي تماما ويرى مصالح أمريكا أهم من مصالح أي طرف آخر، وأن على الجميع أن يعمل بمنطق المكاسب المشتركة الحقيقية التي سيعمل من خلالها الرئيس ترامب وإدارته، ولن يسقط أي خيارات أخرى، وعلينا أن نكون حذرين في التعامل مع نمط وشخصية هذا الرئيس، الذي يمكن أن يذهب بالعلاقات العربية الأمريكية إلى دوائر من التشكك وعدم اليقين والمراجعات السياسية والاستراتيجية التي تجعله دائما هو المنتصر، وليس الذي يبحث في خيارات الانتصار على حساب العلاقات العربية الأمريكية، فهو أي الرئيس ترامب يتعامل من منطق أمريكا فوق العالم، وعلى الدول على مختلف درجة أهميتها لأمريكا أن تدرك أن السياسة منافع ومصالح ربما تكون صفرية في حال عدم المضي قدما لترتيب أجواء المصالح وشكلها وإطارها، وهو ما يجب أن تدركه المؤسسات الأمريكية بأكملها في الوقت الراهن، والتي تحاول قياس ما يجري من منطق الدولة العظمى، ولو على حساب علاقاتها بالقوى الرئيسية الأخرى من روسيا إلى الصين ومن اليابان إلى فرنسا، والمسألة تتعلق بالأساس بالتفاعل الأمريكي، خاصة على مستوى الرئيس ومؤسسات صنع القرار مع مصالح الدول الأخرى.
ستعيش الولايات المتحدة في أزمة حكم غير معلن تفاصيلها، وربما استدعاء مواجهات وايت جيت ووتر جيت ليس صحيحا خاصة أن الظروف مختلفة، وبيل كلينتون وريتشارد نيكسون ليسا دونالد ترامب بكل ما يمثله من معطيات ووقائع سياسية ومجتمعية حقيقية، ومن ثم فإن العمل على طرح سياسات أكثر واقعية سيتطلب النظر إلى الرئيس ترامب من منظور مختلف تماما، خاصة أن نتائج التجديد النصفي للكونجرس ستطرح إشكاليات جديدة في كل الحالات، خاصة أن قيادات الحزب الجمهوري لن تتوانى عن الدفاع عن الرئيس، وليس صحيحا التضحية به أو الاقتراب من سلطاته وصلاحياته السياسية المختلفة، والمؤكد أن الرئيس ترامب سيغير من نمط سياساته على أساس نفعي، والرهانات على لحظة الرشادة لن يتم في ظل خيار التصعيد الذي قد يعمل إليه، ويتجه إلى التصعيد المباشر إذا استمرت أغلبية الجمهوريين في الكونجرس ومجلس الشيوخ، ومن ثم فعلينا أن نعد خياراتنا العربية ليس مع أو ضد الرئيس ترامب أو الجلوس في مواقع المتفرجين، فقط بل علينا أن نتبع استراتيجية استباقية حقيقية في تهميش وتقليل الخسائر والسلبيات في التعامل مع الرئيس ترامب وإدارته، خاصة أن ما سيتحرك فيه الرئيس من مجالات وأطر حقيقية سيؤثر علينا وعلى قضايانا العربية، بل على مستقبل الإقليم بأكمله.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة