واشنطن فنزويلا كوبا.. هل يكتمل "زواج المصلحة"؟
لا شيء يعلو على صوت المصالح حين يتعلق الأمر بالسياسات الخارجية للدول.. فلا عدو دائم ولا صديق دائم أيضا.
فهذه أمريكا اللاتينية، القارة الرابضة على كنز نفطي في نصف الكرة الغربي من العالم، تترجم تقلبات ثنائية الصديق والعدو على نبض حسابات الربح والخسارة والمصالح، ولا غرابة في أن تقود الأزمة الروسية الأوكرانية إلى كلمة السر.
ففي هذا الجزء من المعمورة، تبرز فنزويلا كدولة تمتلك أكبر احتياطيات نفطية في العالم بـ300 مليار برميل، ويمكن القول إنها أقرب شريك استراتيجي لروسيا في المنطقة.
وليس ببعيد عن فنزويلا، يعيد رفع عقوبات أمريكية عمرها 60 عاما عن كوبا، أمس الثلاثاء، الحديث عن أزمة صواريخ الكاريبي، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في ستينيات القرن الماضي، كادت أن تتسبب في حرب نووية.
قبل الحرب الروسية الأوكرانية، لطالما اتسمت العلاقات الأمريكية الفنزويلية بالعدوانية والسلبية والإنكار، بل إن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، ما زالت ترفض الاعتراف بفوز نيكولاس مادورو في الانتخابات التي جرت عام 2018.
لكن مع امتداد شرارة الحرب إلى خارج مسرح الأحداث الرئيسي، تبدّل الحال، وبدا مادورو "شرعيا" بلقاء مع مسؤولين أمريكيين في مارس/ أذار الماضي، قبل أن ترفع واشنطن بالأمس، بعضا من العقوبات المفروضة على فنزويلا.
وبينما تجس الولايات المتحدة التداعيات العالمية للحرب الروسية الأوكرانية، وخاصة ارتفاع أسعار الطاقة، التقى مسؤولون أمريكيون بهدوء مع الرئيس الفنزويلي، قبل نحو شهرين، في العاصمة كراكاس، في زيارة كانت الأولى من نوعها منذ أواخر التسعينيات، فيما يمثل تحولا جذريا في سياسة واشنطن طويلة الأمد.
وفيما لم يتم الإعلان رسميا عن هدف تلك الزيارة، إلا أن تقارير إعلامية رسمت لها ثلاثة أهداف، لأول كان قياس مدى قرب الحلفاء بين بوتين ومادورو ، والثاني بحث إمكانية أن تصبح فنزويلا مصدرا بديلا للنفط للولايات المتحدة في غياب موسكو.
أما الهدف الثالث للرحلة ، كما تم تداوله، هو مواصلة المفاوضات الهادئة حول إطلاق سراح السجناء الأمريكيين في فنزويلا، وقد شهد هذا الهدف بعض النجاح منذ ذلك الحين مع إطلاق سراح سجينين اثنين على الأقل.
وعلى الرغم من القراءات الحذرة من كلا الجانبين، يشير إطلاق فنزويلا اللاحق لسجينين أمريكيين إلى أن الزيارة ربما فتحت الباب أمام تعاون مستقبلي في معالجة واحدة من أسوأ الأزمات السياسية والاقتصادية والإنسانية في العالم.
وعقب الزيارة، أعلن مادورو أن حكومته ستعود إلى المفاوضات في المكسيك، التي توقفت منذ أكتوبر/ تشرين الأول، حيث كان أحد أكبر العوائق حتى الآن هو عدم رغبة أي إدارة أمريكية في التعامل مباشرة مع الرئيس الفنزويلي.
بيد أن السياق الجيوسياسي المتغير ربما يكون قد حوّل حسابات كثيرة من أجل مصالح عديدة.
بوصلة النفط
عندما بدأت الولايات المتحدة وحلفاؤها النظر في فرض عقوبات على صادرات النفط والغاز الروسية لمعاقبة موسكو على حربها ضد أوكرانيا، أشارت أصوات بارزة تابعة لكلا الحزبين السياسيين الأمريكيين الرئيسيين إلى فنزويلا كبديل محتمل.
وها هو سكوت تايلور ، عضو الكونجرس الجمهوري السابق عن ولاية فرجينيا، يدعو إلى "انتهاز الفرصة لتحقيق فوز دبلوماسي وإسفين بين روسيا وفنزويلا".
لكن المؤرخة السياسية مارغريتا لوبيز مايا، لا ترى التقارب الأمريكي الفنزويلي "مريحا"، مشيرة إلى أن النفط يساعد في جعل العالم يدور حول العالم، وفنزويلا لديها الكثير منه.
وللمؤرخة قناعة في هذا الرأي، بأنه حين يكون العالم في أزمة، كما هو الحال مع الحظر المفروض على صادرات النفط الروسية الذي تسبب في ارتفاع الأسعار، يبدأ القادة في إعادة النظر في تلك الصداقات المحرجة.
وتقول لوبيز مايا في حديث مع "بي بي سي" البريطانية: "في فنزويلا ، كل شيء يتعلق بالنفط. إحدى الخطوات الأولى التي اتخذتها الولايات المتحدة في الحرب العالمية الثانية كانت إحضار سفير جيد إلى فنزويلا لتقديم الدعم للحكومة - لتأمين ذلك النفط".
وليس هناك شك- برأي المؤرخة نفسها- في أن علاقة أفضل ستفيد فنزويلا أيضا، فمادورو الذي لطالما كان على استعداد لانتقاد الولايات المتحدة، رفع في مارس/أذار الماضي، غصن زيتون، وهو يتحدث عن العلاقات مع الولايات المتحدة بعد زيارة الوفد رفيع المستوى.
ففي كلمة له، حينها، قال مادورو "كان علما الولايات المتحدة وفنزويلا هناك ، وكانا يبدوان جميلين حقا ، وهما متحدان كما ينبغي، لقد فتحت فرصة جديدة. كان لدينا اجتماع محترم وودي ودبلوماسي للغاية. حان الوقت للدبلوماسية والحقيقة والسلام".
حتى الآن ، كل هذا إيجابي - ولكن إلى أين سيقود ذوبان الجليد في العلاقات؟
يقول لويس فيسينتي ليون ، مدير شركة كاراكاس ومقرها العاصمة الفنزويلية في تصريحات إعلامية: "في الولايات المتحدة ، منذ فترة ، كانت القوى الداخلية تقول إن استراتيجية العقوبات النفطية لم تكن منطقية كثيرا بعد كل هذا الوقت وأن هدفها لم يكن ناجحا".
لكن مع بدء الصراع في أوكرانيا ، أصبح من الواضح أن سياسة العقوبات النفطية تضع الولايات المتحدة في مأزق.
قوة دفع
في يناير/ كانون الثاني الماضي، رفضت روسيا تأكيد أو استبعاد إمكانية نشر بنية تحتية عسكرية روسية في دول خارج أوروبا، مثل كوبا أو فنزويلا، لكنها أكدت في الآن نفسه أنها "تفكر في كيفية ضمان أمنها في سياق الوضع الحالي".
موقف أثار هلع واشنطن التي ظلت تراقب التطورات بكثب دون أن تغفل دوافع موسكو والعوامل المحددة لقدرتها على ذلك، إلى جانب التداعيات المحتملة على نفوذها وأمنها القومي في نصف الكرة الغربي.
وبإعلان الكرملين لاحقا عن مكالمة بين الرئيس فلاديمير بوتين ونظيره الفنزويلي نيكولاس مادورو، ارتفع منسوب القلق الأمريكي إلى أقصاه، وبدا من الواضح أنه لا بد من تغيير تكتيك التعامل مع حلفاء روسيا وتغيير المعادلة بشكل جذري.
الفناء الخلفي
ومع تواتر الأحداث واندلاع الحرب الروسية الأوكرانية بدا أن كل ما تقدم لا يضاهي المدى الذي يمكن أن تبلغه تهديدات موسكو، في رسالة لواشنطن مفادها أنها قادرة على مضاهاة تهديد واشنطن العسكري لها في عمقها الاستراتيجي، من خلال تعزيز روسيا حضورها العسكري والأمني في الفناء الخلفي للولايات المتحدة، وهو ما يعني تهديد أمنها القومي وتحدي نفوذها التاريخي في أمريكا اللاتينية.
فأمريكا تدرك أن معنى تعزيز الحضور الروسي العسكري في نصف الكرة الغربي بسبب الأهمية الجيواستراتيجية لمنطقة أمريكا اللاتينية بفعل قربها الجغرافي من الولايات المتحدة.
وليس هذا فحسب، بل يتعلق الأمر أيضًا بمحورية مكانة المنطقة في إطار أجندة السياسة الخارجية الروسية، ما يرفع منسوب المخاوف الأمريكية من تشكيل تحالف معادي لواشنطن، ولذلك قفزت الأخيرة إلى الأمام، محاولة الإيقاع بأصدقاء عدوها، سعيا نحو قلب مقولة "صديق العدو عدو"، فهل تجعل من صديق عدوها صديقا؟
زواج مصلحة؟
الشكوك تلقي بظلالها على الأمل في شوارع كراكاس، حيث يرى الكثيرون أن هذه التصريحات لا تعدو عن كونها "زواج مصلحة"، ففنزويلا تريد التحرر من العقوبات والانفتاح الى العالم الخارجي، والولايات المتحدة تنشد استقطاب أصدقاء بوتين.
وفي عام 2019 ، وجهت العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب والتي حظرت بموجبها تجارة النفط الخام الفنزويلي ، ضربة اقتصادية قاسية للبلاد.
وفي محاولة أولية لتجنب خرق العقوبات، استخدمت فنزويلا شركة الطاقة الروسية المتكاملة روسنفت - ثالث أكبر شركة روسية من حيث القيمة السوقية - لتداول النفط الخام، قبل أن يرد ترامب بفرض عقوبات إضافية على روسنفت.
يقول ليوناردو فيفاس ، الزميل السابق في مركز كار لسياسة حقوق الإنسان والمحاضر في أمريكا اللاتينية في كلية إيمرسون: "العقوبات المفروضة على روسنفت جعلت من الصعب على فنزويلا إخراج نفطها، وكان عليهم إيجاد طرق أخرى لبيع النفط للهند ، من بين دول أخرى ".
في المقابل، تتمثل الصعوبة التي قد يواجهها مادورو في كيفية استمالة هذا المنعطف إلى قاعدة دعمه، فعلى مدى العقدين الماضيين ، تمسكت الأنظمة الاشتراكية المتعاقبة في البلاد برواية مناهضة للنيوليبرالية مفادها "إمبراطورية الولايات المتحدة" ضد فنزويلا "ذات السيادة".
مكاسب بنكهة مُرة
بيد أنه رغم هذه الصعوبة، يبقى لدى مادورو الكثير ليكسبه من التفاوض مع الولايات المتحدة، برأي مراقبين.
فإذا رفعت الولايات المتحدة عقوباتها عن فنزويلا، فإن زيادة إنتاج الأخيرة من النفط سيكون أكثر جاذبية من دعم روسيا.
علاوة على ذلك، ستمنحه هذه المفاوضات اعترافا غير متوقع وضمني بقيادته المتنازع عليها دوليا. ومع ذلك ، فإن نتائج المفاوضات تعتمد على طبيعة المطالب المتبادلة.
لعنة الجغرافيا تحاصر الكنوز
لطالما مثّلت أمريكا اللاتينية منطقة استراتيجية جغرافية للولايات المتحدة وروسيا، ومؤخرا الصين، نظرا لموقعها وطاقتها الهائلة ومواردها المعدنية وتنوعها البيولوجي.
ولمن يفتش في دفاتر التاريخ، يتوقف عند أزمة الصواريخ الكوبية التي تسمى في روسيا "أزمة الكاريبي"، بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي المتحالف مع كوبا في أكتوبر/تشرين الأول 1962.
وانتهت الأزمة في 28 من الشهر نفسه، عندما توصل كل من الرئيس الأمريكي جون كينيدي وأمين عام الأمم المتحدة يو ثانت إلى اتفاق مع السوفيت لإزالة قواعد الصواريخ الكوبية شريطة أن تتعهد وواشنطن بعدم غزو كوبا وأن تقوم بالتخلص بشكل سري من الصواريخ البالستية.
وتقارن أزمة الصواريخ الكوبية بـحصار برلين كواحدة من أشد المواجهات خلال الحرب الباردة، وتعتبر هذه الأزمة أقرب أزمة كادت أن تؤدي لقيام الحرب النووية.
وفي يناير /كانون الثاني الماضي، حذرت روسيا من أنها قد ترسل بنى تحتية عسكرية إلى أعتاب أمريكا؛ في كوبا وفنزويلا، إذا لم يتعهد حلف الناتو بوقف توسعه في أوروبا.
ورفض نائب وزير الخارجية الروسي سيرجي ريابكوف استبعاد مثل تلك الخطوة عند سؤاله تحديدا بشأن تلك الاحتمالية في حال انهيار المحادثات مع واشنطن بشأن التوترات مع أوكرانيا.