نتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة لن تسمح للجمهوريين بإدارة البلاد من خلال الكونغرس.
ولكنها ستجبر الديمقراطيين على إعادة النظر في سياساتهم الداخلية والخارجية.. وخاصة فيما يتعلق بالرهان على الحرب للخلاص من روسيا ثم الصين، من أجل تثبيت القطبية الأمريكية الوحيدة في إدارة العالم.
الولايات المتحدة تعيش تخبطا واضحا منذ وصول الرئيس جو بايدن إلى البيت الأبيض قبل عامين.. لم يعد يهم اليوم كم تبدو رواية تزوير انتخابات الرئاسة عام 2020 دقيقة وحقيقية.. المهم فقط أن إدارة بايدن خسرت المقارنة مع سابقتها في أوجه كثيرة أولها الاقتصاد، فقرر الناخبون معاقبة الديمقراطيين على خذلانهم.
عشرات ملايين الأمريكيين لا يزالون يصرون على أن الرئيس السابق دونالد ترامب هو مَن فاز في الانتخابات الماضية، وما لحق بالنتائج من "تضليل" حينها هو ما أوصل البلاد إلى ما هي عليه من سوء اليوم.
وهناك أيضا كثيرون ممن صوّتوا لبايدن وحزبه عن قناعة حينها، يقولون الآن "ليت الزمان يعود يوما".
الديمقراطيون جنوا ثمار ما فعله ترامب لإخراج البلاد من الجائحة، ولكنهم أضاعوا كل شيء، وأحرقوا المحصول بأكمله.. الديمقراطيون أيضا تجاهلوا ما بناه الرئيس السابق خلال أربع سنوات تحت شعار "أمريكا أولا"، ومضوا بالبلاد لـ"استعادة الدور العالمي للولايات المتحدة"، ولكن حساباتهم لم تكن دقيقة بصورة كافية.
العامل الأساسي في المقارنة بين زمنين أو إدارتين للبيت الأبيض، هو الحرب الأوكرانية الروسية.. فلو بقي ترامب في السلطة لما وقعت الحرب أصلا.. وعندما وقعت، أو استدعيت، عبر تخطيط مسبق ورغبة تعود إلى عهد الرئيس الديمقراطي الأسبق باراك أوباما، بات التقييم والحكم على أساس النتائج والتداعيات.
وكما الحال في الداخل هو في الخارج.. فهناك دول انتظرت قدوم الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، وانقلب حلمها إلى كابوس.. كما أن العديد من الدول كانت حتى بداية العام الجاري تؤمن بأن الولايات المتحدة الأمريكية سيدة العالم دون منازع، ثم تغيرت القناعات وبهتت البدَهيات وأعيد النظر في المسلّمات.
الحرب الأوكرانية هي من كشفت "عورات" إدارة البيت الأبيض، سواء بأشخاصها الذين يتصدرون المشهد، أو أولئك الذين يحكمون بالظل.. وعلى الرغم من النتائج الكارثية التي جاءت بها الحرب على العالم ككل، فإنها أتاحت الفرصة للدول والشعوب للنظر إلى أمريكا وحلفائها في الغرب بطريقة مختلفة نوعا ما.
لا أحد يفضل الحرب على السلام مهما كان قويا ومحصّنا.. وخاصة إن كانت حربا تتردد أصداؤها في جميع أرجاء المعمورة.. ولكن هل ننكر أن الحرب الأوكرانية الروسية غيّرت خارطة العلاقات الدولية، وقلبت موازين القوى والتحالفات حول العالم رأسا على عقب؟ هل نتجاهل حقيقة أن دولا استفادت من الحرب دون أن تريد ذلك، وأخرى تضررت بعدما راهنت عليها، وبذلت من أجلها كل غالٍ ونفيس؟
عندما يقول الجمهوريون إنهم لن يقدموا "شيكا على بياض" لأوكرانيا إنْ فازوا بمجلس النواب في الكونجرس، فهذا ينطوي على اعتراف غير مباشر بأن الحرب الأوكرانية لم تكن "معركة الديمقراطية الغربية على الاستبداد في العالم".. كما يبوح قولهم أيضا بحقيقة أن الأمريكيين لا يريدون دعم كييف على حساب قوت يومهم.. والإدارة التي تمد الحرب بمدخراتهم وموارد عيشهم لا تلبي طموحاتهم.
ليس فقط الأمريكيون مَن يطالبون قادتهم بالتعقل في التعاطي مع تلك الحرب.. كل الشعوب الأوروبية تنادي بالشيء ذاته، وتقول إن الخصومة مع الروس ليست كالتدخل في سوريا أو أي دولة تبعد مئات آلاف الأميال عن حدود القارة العجوز.. ثمة ضرر واقع ويزداد على الجميع يوميا، لا بد من الاعتراف به ووقفه بسرعة.
والضرر، الذي يستوقف الشعوب الغربية في الحرب الأوكرانية، لا ينتهي عند ارتفاع معدل التضخم وصعود كلفة الحياة وتراجع موارد الطاقة.. فهناك انقسامات بدأت تظهر بين حلفاء كييف، كما تفجرت تباينات داخل الدولة الواحدة في معسكر المُعادين لروسيا.. وكل هذا يتسع مع الوقت، ويبشر بخسائر كبيرة مع الوقت.
في دول الاتحاد الأوروبي، ثاني خطوط المواجهة مع روسيا بعد أوكرانيا، ضاقت الشعوب ذرعا بحكوماتها، التي فشلت في تجنب تداعيات الحرب.. والمشكلة الكبرى أن دول التكتل، خاصة الكبيرة والقيادية بينها مثل فرنسا وألمانيا، باتت على خلاف واضح حول سبل احتواء نتائج الحرب على المدَيين المتوسط والطويل.
الخلافات أيضا باتت واقعا بين الأوروبيين والأمريكيين.. زيارة المستشار الألماني أولاف شولتس إلى الصين، تكشف هذا بوضوح.. وكذلك انتقادات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استغلال الولايات المتحدة حاجة الأوروبيين إلى الغاز، وبيعهم الوقود الأزرق بثلاثة أضعاف سعره في السوق العالمية.
وكلما اتسعت المشكلات داخل وبين بلاد الغرب بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، تعمقت أزمة الساسة الحالمين بركوب موجة "الدفاع عن الديمقراطية الغربية" من أجل الوصول إلى السلطة.. وكل من يراهن على الحرب اليوم ليسود دون منازع، أو يتجنب أي معارضة داخلية لحكمه سوف يجد نفسه أمام رهان خاسر.
لم تحْمِ الحرب الأوكرانية بوريس جونسون أو ليز تراس في بريطانيا.. ولم تنصر الحزب الديمقراطي في انتخابات الكونغرس الأمريكي أيضا.. كذلك لم تمنع التظاهرات الشعبية التي تتسع رقعتها في دول أوروبا للمطالبة بتحسين الواقع الاقتصادي، وتوقف الحكومات عن التحجج بالحرب لمواجهة أزمات المعيشة.
لن يبقى دعم أوكرانيا هو الشرط اللازم والكافي لإثبات "قوة" الديمقراطية الغربية.. لقد اتسعت الدائرة لتشمل معايير أخرى، وباتت الأولوية لاحتواء تغيرات السياسة والاقتصاد التي وقعت على خرائط العالم في الأشهر الماضية.
أزمة أوكرانيا أثبتت للغرب كما لروسيا، أن الحرب رهانٌ خاسر لحكم الشعوب أو إخافة الدول.. وكما قال الرئيس السادس عشر لأمريكا إبراهام لينكولن: "لا خير في الحرب إلا نهايتها".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة