رياح غزة تربك اليسار الأوروبي.. مواقف متباينة وتحالفات مهددة
لكل حرب تبعات تزداد حدتها كلما طال أمد القتال، وتتطاير شظاياها على مسافات بعيدة، ربما لقارات أخرى، مثلما يحدث مع اليسار الأوروبي حاليا.
الحرب المستعرة بين إسرائيل وحماس ترعب الكثير من دول العالم، لكن لدى القادة اليساريين في أوروبا سبب إضافي للرغبة في أن ينتهي القتال في أقرب وقت ممكن.
فالصراع يثبت أنه بطاطا سياسية ساخنة تؤدي إلى تفاقم الأوضاع والخلافات الداخلية في أوروبا، مما يعرض التحالفات الهشة بالفعل للخطر، ويهدد بدفع ثمن باهظ في الانتخابات المقبلة. وفق تقرير طالعته "العين الإخبارية" في مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية.
ومع انقسام الناخبين التقدميين بين الصدمة إزاء هجوم حماس الذي راح ضحيته 1400 شخص داخل إسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، والغضب من مقتل آلاف المدنيين الفلسطينيين في الغارات الجوية الإسرائيلية على قطاع غزة، تنعكس هذه التبعات.
وفي دول مثل فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، تجد الأحزاب اليسارية نفسها غارقة في خلافات مدمرة حول كيفية تصنيف تصرفات حماس ومدى القوة التي يحق لإسرائيل استخدامها في ردها العسكري.
يقول لوك روبان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة ساينس بو في باريس، للمجلة الأمريكية، إن الصراع "يسلط الضوء على الاختلافات بين اليسار الراديكالي والديمقراطيين الاشتراكيين"، مضيفا " (الصراع) يفجر اليسار" في أوروبا.
فرنسا.. الحالة الأصعب
ولا يوجد تقدميون منقسمون حول هذه القضية كما هو الحال في فرنسا. إذ أثار حزب "فرنسا الأبية" المصنف يساري متطرف وشكّل في العام الماضي ائتلافاً غير مستقر مع أحزاب أكثر اعتدالاً (وأصغر كثيراً) مثل الاشتراكيين والخضر، غضب حلفائه عندما وصف هجوم حماس بأنه "هجوم مسلح".
وتحدث الحزب عن "جرائم حرب" يرتكبها المسلحون الفلسطينيون، لكنه يرفض وصف حماس بأنها منظمة إرهابية.
ومع استمرار ارتفاع عدد القتلى في غزة، أثار زعيم فرنسا الأبية، جان لوك ميلينشون، المزيد من ردود الفعل العنيفة باستخدام ما اعتبره كثيرون "لغة معادية للسامية"، في بلد شهد منذ بداية الصراع انفجارًا في الأعمال المعادية للسامية، وفق فورين بولسي.
ورفض ميلينشون بشدة هذه الاتهامات. ولكن تم تعليق التحالف اليساري إثر هذه التصريحات، رغم أن قلة لا يزالون مقتنعين بإمكانية إحياء التحالف.
وقال روبان إن "ميلينشون يسعى إلى تعزيز صورته كحامل لواء المضطهدين، مع التركيز على عدد كبير من السكان المسلمين في فرنسا، والفقراء في كثير من الأحيان. لكن في الواقع، فإن حزب "فرنسا الأبية" يرسخ مكانه على هامش المجال السياسي".
وتابع أن الحزب "يظهر على أنه مجموعة متطرفة لا تتردد في الانخراط في جميع أنواع الاستفزازات"، على حد قوله.
وتشير استطلاعات الرأي إلى أن شعبية ميلينشون في حالة سقوط حر. وهنا علق روبان، قائلا “لا أرى كيف لا يزال بإمكانه أن يأمل في الفوز في الانتخابات الرئاسية بعد ذلك”.
معضلة حزب العمال
بيد أن فرنسا ليست المكان الوحيد الذي يواجه فيه اليسار المتاعب إثر الحرب المستمرة في غزة. ففي بريطانيا، أثار زعيم حزب العمال كير ستارمر استياء داخل حزبه عندما قال إن "لإسرائيل الحق في حجب الكهرباء والمياه عن غزة كجزء من ردها على هجوم حماس".
وبعد مرور شهر على الغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة، يدعو ستارمر إلى هدنة إنسانية مؤقتة، لكنه لا يزال لا يدعم وقف إطلاق النار طويل الأمد، بحجة أن ذلك "سيشجع" حماس.
وتحدى كبار شخصيات حزب العمال ستارمر علنًا بشأن ما يعتبرونه موقفًا مؤيدًا بشكل مفرط لإسرائيل، مع استقالة العشرات من أعضاء المجالس البلدية عن حزب العمال بسبب هذه القضية.
ووفق فورين بولسي، يرتبط موقف ستارمر جزئيا بالندوب التي خلفتها فضائح معاداة السامية التي ضربت حزب العمال قبل بضع سنوات.
ولطالما قدم ستارمر نفسه على أنه "صديق لا لبس فيه لإسرائيل"، وسعى إلى التأكيد على الاختلاف بينه وبين سلفه، جيريمي كوربين، الذي اتُهم على نطاق واسع بعدم بذل ما يكفي لمعالجة معاداة السامية في الحزب.
وقال ريتشارد جونسون، أحد كبار المحاضرين في جامعة كوين ماري في لندن، إن ستارمر "يحتاج الآن إلى أن يظل متماسكًا مع تلك الصورة".
ولكن مع كون عدد المسلمين الذين يعيشون في بريطانيا أكبر بـ 14 مرة من عدد اليهود، فإن دفاع ستارمر عن إسرائيل يجلب أيضًا “قدرًا معينًا من المخاطر الانتخابية لحزب العمال”، كما قال جونسون.
وفي الأسابيع الأخيرة، شهدت بريطانيا بعضًا من أكبر المسيرات المؤيدة للفلسطينيين في أوروبا، حيث خرج عشرات الآلاف من الأشخاص إلى الشوارع مرة أخرى يوم السبت الماضي، للمطالبة بوقف قصف غزة.
أزمة سانشيز
وفي إسبانيا، اضطر رئيس الوزراء الاشتراكي بيدرو سانشيز إلى اللجوء لسياسة السيطرة على الأضرار بعد أن قال أحد وزرائه، زعيم حزب بوديموس اليساري المتطرف، إيوني بيلارا، إن الحملة العسكرية الإسرائيلية ترقى إلى مستوى "الإبادة الجماعية"؛ ويجب محاكمة رئيس وزراء إسرائيل، بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب.
كما دعا بيلارا، إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل وفرض عقوبات اقتصادية. لكن هذه التصريحات أثارت رد فعل غاضب من قبل السفارة الإسرائيلية في مدريد، مما أجبر وزارة الخارجية الإسبانية على التوضيح أن بيلارا لا يعبر عن وجهات نظر الحكومة الرسمية بشأن السياسة الخارجية، وأن إسبانيا تعترف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضمن حدود القانون الدولي.
وجاء الخلاف في لحظة حساسة بالنسبة لسانشيز، الذي يكافح من أجل تشكيل ائتلاف كبير بما يكفي لمواصلة الحكم بعد الانتخابات غير الحاسمة في يوليو/ تموز الماضي.
وتعليقا على ذلك، قال خوسيه إغناسيو توريبلانكا، رئيس مكتب المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية في مدريد: “لا أعتقد أنه يمكنك العثور على أي أعضاء حكوميين في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى يقولون ما يقوله بوديموس عن إسرائيل”، مضيفا "هذا موقف غير مريح للغاية بالنسبة لسانشيز".
في المقابل، تقول فورين بولسي "من المؤكد أن الحرب بين إسرائيل وحماس لا تؤدي إلى انقسام اليسار في كل مكان. ففي ألمانيا، أدان حزب اليسار الذي ينتمي إلى نفس المجموعة التي تنتمي إليها حزب فرنسا الآبية في البرلمان الأوروبي، بشكل لا لبس فيه الهجمات الفظيعة التي تشنها حماس".
كما انحاز حزب اليسار الألماني إلى حد كبير إلى كل من ائتلاف يسار الوسط الحاكم والمعارضة المحافظة في برلين، في الموقف الداعم لإسرائيل.
وقال جونسون إنه في بريطانيا، باستثناء أكثر من اثنتي عشرة دائرة انتخابية ذات كثافة سكانية كبيرة من المسلمين، فإن "حسابات مكتب زعيم حزب العمال هي أن هذه الحرب لن تكون قضية رئيسية في الانتخابات المقبلة".
وفي إسبانيا، دخل حزب بوديموس في خلاف طويل مع سانشيز حول قضايا السياسة الخارجية، مثل تقديم المساعدات العسكرية لأوكرانيا، لكنه كان حتى الآن لا يريد لإثارة أزمة حكومية بسبب تلك الخلافات.