قبل 50 عاما، كانت فلسفة الأمريكيين تقوم على مبدأ أن الصين قوة صاعدة في المجالات كافة، وتمثل تهديدا "استراتيجيا" لمكانة أمريكا.
حينها كانت بكين توأمة موسكو أيديولوجيًّا، مع اختلاف مقاربات زعاماتهما الحزبية حول مبادئ الحكم وأسلوب إدارة الاقتصاد والعلاقات الدولية مع العالم الآخر، لكن سرعان ما تطور الاختلاف في المقاربات ليتحول لاحقا إلى خلاف علني، أدى عام 1961 إلى الانقسام الصيني السوفييتي، الذي استغله الرئيس الأمريكي، ريتشارد نيكسون، ومستشاره للأمن القومي وقتذاك هنري كيسنجر، للانخراط في مفاوضات سرية مع بكين، استمرت قرابة سبعة أشهر أفضت إلى تفاهمات بينهما، وتحديدا حول قضية تايوان، ومهدت المفاوضات لزيارة نيكسون إلى بكين في 21 فبراير/شباط عام 1972.
الزيارة حينها عمّقت الشرخ بين بكين وموسكو من جانب، وحققت من جانب آخر غرضين استراتيجيين للصين وللولايات المتحدة على حد سواء. فقد انتزعت بكين إقرارًا أمريكيًّا علنيًّا بأن تايوان جزء من الصين وأن حل قضيتها يمر عبر التفاوض والدبلوماسية، بينما استمالت واشنطن إلى جانبها أكبر وأهم حليف لخصمها، الاتحاد السوفييتي، في تلك الحقبة، وبذرت بذور شقاق طويل الأمد بينهما ظلت تستثمره في حربها الباردة مع موسكو عشرات السنين.
لم يطرأ تغيير على جوهر التصنيف الأمريكي للصين منذ عقود طويلة، وصولا إلى إدارة "بايدن" الحالية. ارتبطت مستويات التصعيد والمناكفة مع بكين من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة تبعا لرؤية كل واحدة منها، ديمقراطية كانت أم جمهورية، وكانت تنوس بين محاولات الضغط وبين مساعي الاحتواء والاستقطاب، لكن ذلك لم يحقق نتيجة عملية تُذكر لجهة التفاهم مع بكين.
الأمر الوحيد الذي بقي قائما هو التبادل التجاري بين الدولتين، والذي شهد نموًا مطردًا على الدوام، ويقدر بنصف تريليون دولار سنويا.
لم تبلور إدارة بايدن نهجًا سياسيا مناقضا لنهج إدارات أمريكية سابقة، كل ما في الأمر أنها نقلت أسلوب الصراع مع بكين إلى حيز عملي مرتكز إلى بناء تحالفات دولية مثل اتفاقية "أوكوس" مع بريطانيا وأستراليا، وتعزيز وتعميق تحالفات وشراكات إقليمية في المحيط الجيوسياسي للصين، مثل رابطة دول جنوب شرقي آسيا "آسيان"، واليابان وكوريا الجنوبية.
في بداية شهر فبراير الماضي كشفت إدارة "بايدن" عن استراتيجية جديدة بخصوص المحيطين الهندي والهادئ، هدفها "تشكيل البيئة الاستراتيجية التي تعمل فيها الصين" والتخلي عن محاولات تغيير الصين إلى دولة ديمقراطية أو اقتصاد سوق حرة.
هل تكتفي إدارة "بايدن" بخوض حرب باردة مع الصين بعد أن استغلت الأزمة الأوكرانية ضد روسيا عسكريا وسياسيا واقتصاديا؟
لقد دأبت إدارة "بايدن" منذ وصولها إلى "البيت الأبيض" على العمل لتأطير الصين أمام العالم -وفي عيون الأمريكيين تحديدا- على أنها التحدي الاستراتيجي الأكثر خطورة على مصالح واشنطن اقتصاديا وعسكريا، وبالتالي سياسيا، فضلا عن كونها "تهديدا لمكانة الولايات المتحدة كقوة مهيمنة على العالم".
لا مبادرات تلوح في الأفق من جانب المسؤولين الأمريكيين تجاه الصين على الصعيدين الدبلوماسي والسياسي، فقد ترافق ذلك مع تراجع نبرة التهديد والوعيد التي وسمت خطاباتهم قبل تفجر الأزمة الأوكرانية.
تمحورت مواقف المسؤولين الأمريكيين وتصريحاتهم عند القول بأن ما يجري في أوكرانيا يتم رصده ومتابعته من جانب القيادة الصينية بكثير من الحذر، دون أن يُسقطوا من خطابهم عبارات التنبيه لبكين بضرورة استخلاص العبَر.
السؤال المطروح اليوم: هل تسلك إدارة بايدن مع الصين تكتيكًا مشابها لما قامت به في محيط روسيا قبل وبعد تفجر الأزمة الأوكرانية ما دامت مشكلة تايوان لا تزال معلقة؟ أم تأخذ باستراتيجية "كيسنجر" الداعية لضرورة التفاوض بين البلدين انطلاقا من أن "الحرب بينهما ستكون كارثة لا توصف ولا يمكن الفوز بها من قبل أحد".
هل ما حدث ويحدث في أوكرانيا سيولد الرغبة لدى بكين وواشنطن للتفاوض والتوافق على قواعد محددة في إطار المنافسة طويلة الأمد بينهما؟
يقول خبير الشؤون الصينية البارز في "البيت الأبيض"، راش دوشي، في كتابه "اللعبة الطويلة.. استراتيجية الصين لإزاحة النظام الأمريكي": "إن صراع الصين من أجل السيادة الذي كان يوما ما يقتصر على آسيا هو الآن حول النظام العالمي ومستقبله".
لا شك في أن الظروف الدولية اليوم مختلفة عما كانت عليه عام 1972، حينها كان الاتحاد السوفييتي قوة عظمى منافسة للأمريكيين، والصين كانت تقوم بأدوار بسيطة، وكانا على طرفي نقيض على عكس ما عليه حالهما اليوم.
ليس مستحيلا بناء علاقات قوية ومرنة في الآن ذاته بين الأعداء، والحال تنطبق على الخصوم حتما.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة