بعد خفض واشنطن قواتها.. العلاقات الألمانية الأمريكية إلى أين؟
يقف ترامب في طابور طويل من صناع السياسة في الولايات المتحدة الذين ينظرون إلى أوروبا كمنافس بشكل متزايد، وليش كشريك أو حليف
على مدار عقود، كانت العلاقات الألمانية الأمريكية أكثر من وثيقة، ولم تتأثر بتغير الرؤساء أو الأحزاب الحاكمة في البلدين.
لكن الوضع تغير، وباتت الروابط التي كانت من الثوابت السياسية، أكثر ضعفا، إلى حد دفع كثيرون للتساؤل: هل وصلت العلاقات بين برلين وواشنطن إلى أسوأ مراحلها منذ الحرب العالمية الثانية؟
وكان قرار إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب 9500 من القوات الأمريكية المتمركزة في ألمانيا، خلال الأيام الماضية، كاشفا عن الوضعية التي وصلت إليها العلاقات مع البلدين، لكنه لم يكن وليد الصدفة، بل آخر حلقة في سلسلة من الأزمات الصعبة.
وفي هذا الإطار، قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس خلال الأسبوع الجاري: "نقدر التعاون الذي تم التوصل إليه مع القوات الأمريكية على مدى عشرات السنين. إنه في صالح كل من البلدين". وتابع "إننا شركاء في التحالف عبر الأطلسي. ولكنها (علاقة) معقدة".
وبصفة عامة، يعتبر التواجد العسكري الأمريكي في ألمانيا مهم للغاية من النواحي التاريخية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ويتمركز الألاف من القوات الأمريكية في الأراضي الألمانية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في 1945، كضمانة أمنية لجمهورية ألمانيا الاتحادية، وحلقة وصل سياسية أساسية بين البلدين، وفق تقرير لوكالة الأنباء الألمانية "حكومية".
وعلى مدار العقود الماضية، تطورت الآلاف من الصداقات وعلاقات الشراكة والزواج بين الجنود الأمريكيين المتمركزين، والألمان، بل إن القواعد العسكرية الأمريكية مثلت مصدر دخل لألمانيا.
وعلى سبيل المثال، توظف قاعدة أمريكية في ولاية راينلاند بالاتينات الألمانية نحو 7000 ألماني، فيما تساهم قاعدة رامشتاين الجوية الأمريكية بـ2 مليار دولار في الاقتصاد الألماني ممثلة في أجور الموظفين الألمان، وإيجارات الأصول والمباني، والتعاملات التجارية مع المؤسسات الألمانية.
ووصف بن هودجز، الخبير العسكري الأمريكي، قرار سحب القوات الأمريكية بـ"الخطأ الفادح". وكتب على صفحته بموقع "تويتر" إن القرار "مدفوع بدوافع سياسية بحتة، وليس نابعا من أي تخطيط استراتيجي، كما أنه هدية لروسيا".
محور الخلاف
تصاعد الخلاف بين برلين وواشنطن منذ تسلم ترامب السلطة في يناير/كانون ثاني 2017، بسبب قضية أساسية، هي مساهمة الدول الأعضاء في ميزانية حلف شمال الأطلسي>
وترى الولايات المتحدة أنها تساهم بالجانب الأكبر في هذه الميزانية، وتضغط على الدول الأوروبية، وخاصة فرنسا وألمانيا، لرفع إنفاقها إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2024، وهو هدف متفق عليه منذ سنوات في أروقة التحالف.
لكن برلين ترغب في رفع مساهمتها في ميزانية الحلف البالغة حاليا 1.16% من ناتجها المحلي الإجمالي، بشكل تدريجي، ولا تعلن خطة واضحة لتحقيق هدف "الناتو"، وهو ما يغضب الإدارة الأمريكية بشدة.
وفي تصريحات قبل أيام، قال السفير الأمريكي السابق في برلين، ريتشارد غرينل، إن قرار خفض القوات الأمريكية في ألمانيا من 34500 إلى 25 ألف جندي، "جرى الإعداد له منذ العام الماضي".
ولفت في هذا الإطار إلى شعور الولايات المتحدة بالاستياء من عدم وفاء ألمانيا بهدف حلف شمال الأطلسي (الناتو) إنفاق اثنين في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع.
والعام الماضي، شن غرينل المقرب من ترامب، هجوما كبيرا على برلين، وقال إن "تقاعسها عن رفع ميزانيتها العسكرية إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي، إهانة حقيقية لواشنطن".
وتابع: "كيف يدفع دافعو الضرائب الأمريكيون تكاليف انتشار القوات الأمريكية في ألمانيا بينما يستخدم الألمان فائضهم التجاري لأغراض محلية".
"نورد ستريم" وإيران
ولا يتوقف الأمر عند ميزانية "الناتو"، حيث يمثل خط أنابيب "نورد ستريم 2" محور خلاف آخر بين واشنطن وبرلين.
وتعارض الولايات المتحدة بشدة "نورد ستريم 2" الذي يمر عبر بولندا وأوكرانيا، لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، وفرضت بالفعل عقوبات على الشركات العاملة في المشروع.
وترى أنه يقوي النفوذ الروسي في أوروبا، ويمنعها من بيع المنتجات البترولية الأمريكية في القارة الأوروبية.
وبالإضافة إلى خط الأنابيب، تسبب الملف الإيراني في أزمة كبيرة في العلاقات الأمريكية الألمانية منذ مايو 2018، حين قرر ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي المبرم في 2015، وضغط على الدول الأوروبية لاتخاذ نفس الخطوات.
لكن ألمانيا، وفرنسا وبريطانيا قادت موقفا أوروبيا يرفض الانسحاب من الاتفاق، ويتمسك به، ويرفض أيضا العقوبات الأمريكية على طهران والشركات والكيانات المتعاملة تجاريا معها.
بل سعت هذه الدول إلى التحايل على العقوبات الأمريكية عبر نظام أوروبي للتعاملات المالية مع الدولة الآسيوية، وهو ما يغضب الولايات المتحدة بشدة.
قمة مجموعة السبع
ونقلت وكالة رويترز عن مصادر لم تسمها مؤخرا إن عدداً من المسؤولين الأمريكيين في البيت الأبيض ووزارة الخارجية ووزارة الدفاع (البنتاغون) فوجئوا بقرار سحب عدد من القوات الأمريكية في ألمانيا، وقدموا تفسيرات بينها شعور ترامب بالإهانة بسبب رفض المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل المشاركة في قمة مجموعة السبع التي كان ترامب يعد لها.
وخلال الفترة الماضية، كان ترامب يخطط بقوة لعقد قمة مجموعة السبع في البيت الأبيض لإرسال رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة مصرة على المضي قدما رغم تفشي فيروس "كورونا" المستجد، وإعادة الحياة الطبيعية.
لكن ميركل رفضت نهائيا المشاركة في هذه القمة في الوقت الحالي بسبب الوباء.
ونقلت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية عن مصادر لم تسمها إن "ترامب شعر بالإهانة من موقف ميركل، كما أنه اضطر لتأجيل القمة إلى سبتمبر وخسر التأثير الانتخابي الذي يمكن أن تحدثه في الوقت الحالي".
العلاقات.. إلى أين؟
فتحت الأزمات المتكررة في العلاقات بين برلين وواشنطن، باب التساؤلات حول مستقبل العلاقات العابرة للأطلسي، وهل بلغت هذه العلاقات أسوأ مراحلها منذ الحرب العالمية الثانية، وما يمكن أن يحدثه أي تغيير في القيادة السياسية في الولايات المتحدة، حيث تجرى الانتخابات الرئاسية في نوفمبر المقبل، من تأثير على المسار الحالي للتعاون بين الدولتين.
وفي هذا الإطار، قالت الخبيرة في الشؤون الأمريكية والأستاذة بجامعة برلين الحرة، جيسيكا سي إي جينوف هيشت، في تصريحات لـ"العين الإخبارية" إن العلاقات الألمانية الأمريكية "ليست جيدة في الوقت الحالي"، مضيفة أن خطاب ونهج الإدارة الأمريكية "لا يساهم في تحسينها".
وتابعت: "لكن لا يمكن القول إن العلاقات بين البلدين تمر بأسوأ مراحلها منذ الحرب العالمية الثانية"، فلا يزال هناك العديد من أوجه التعاون الوثيق في القطاعين الاقتصادي والأمني.
وأضافت "يقف ترامب في طابور طويل من صناع السياسة في الولايات المتحدة الذين ينظرون إلى أوروبا كمنافس بشكل متزايد، وليس كشريك أو حليف".
ومضت قائلة "هذا التوجه ليس جديدا، فهنري كيسنجر على سبيل المثال، كان يرى أن التكامل الأوروبي سيجعل القارة منافسا لبلاده، ونصح بمواجهة ذلك عبر التدخل المستمر في شؤون الاتحاد الأوروبي".
الخبيرة الألمانية قالت أيضا إن "تصريحات ترامب حول ألمانيا في سياق الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي والعلاقات عبر الأطلسي غير مناسبة ومبالغ فيها من حيث الكلمات والأسلوب، لكن من الأفضل أن تأخذ برلين هذه التصريحات والتوجهات على محمل الجد".
ورأت جيسيكا التي تشغل أيضا منصب مدير معهد جون اف كينيدي لدراسات أمريكا الشمالية، إن تغير القيادة في الولايات المتحدة يمكن أن يحمل تغييرا في السياسات تجاه ألمانيا.
وأضافت: "يميل الأوروبيون الغربيون عمومًا إلى دعم الديمقراطيين أكثر من الجمهوريين، كما أن الديمقراطيين أقرب لدعم أوروبا الغربية من الجمهوريين".