من جملة ما أفرزت حرب غزة أنها وضعت العلاقات الأمريكية الإسرائيلية أمام استحقاق جدي، قد لا يرقى إلى مستوى التحدي، لأن العلاقة بينهما تتجاوز جميع التباينات والاختلافات مهما عظم شأنها.
والعلاقة أيضاً غير مرشحة للقطيعة كونها متجذرة بين دولتين تتماهيان في الأهداف والاستراتيجيات على المسرح الدولي برمته، وهي ليست علاقة بين أحزاب وتيارات حاكمة هنا وهناك، إنه استحقاق أولويات المصالح ليس إلا.
لحكومة تل أبيب أهدافها وغاياتها من الاستمرار في حربها على الشعب الفلسطيني في غزة، ولواشنطن حساباتها المتعلقة بمروحة واسعة من المصالح الاستراتيجية الإقليمية والدولية، تناغماً في جانب، وتعارضاً وتبايناً في جانب آخر.
التزمت الإدارة الأمريكية مبدأ "إدارة الحرب" في غزة انطلاقا من ثلاثة محاور، أولها محور الدعم العسكري والأمني والاقتصادي والسياسي المطلق لحكومة تل أبيب، ومن شأن ذلك أن يعطي هامشاً للجانب الأمريكي كي يمارس ضغطا ولو كان محدوداً على نتنياهو وحكومته لضبط حدود الحرب وساحاتها، وفي المحور الثاني عملت على التصدي لجميع محاولات الطرفين توسيع رقعة الحرب في الإقليم، ونفذت عمليات ردع مدروسة للسلوكيات المليشياوية في جنوب لبنان وفي العراق وفي سوريا وفي اليمن بمقياس ما تقتضيه مصالحها الاستراتيجية والحيوية وحساباتها الخاصة المتعلقة بالتحديات التي تواجهها في المنطقة بسبب وجودها العسكري، في حين تركت المحور الثالث مفتوحا على احتمالات متعددة لمرحلة سياسية قادمة لا محالة بعد الحرب، وواظبت على إبقائه مفعّلاً وسالكاً.
التكهنات والأسئلة رافقت المحاور الثلاثة دون بروز ملامح إجابات حاسمة عليها، فالدعم الأمريكي المفتوح تحول عنصر استفزاز للمجتمعات الغربية عموما بما فيها قطاعات واسعة من الإسرائيليين والأمريكيين، والاستهدافات المحدودة للمليشيات المنضوية تحت الراية الإيرانية تثير الشكوك ليس حول جدواها فحسب، بل كونها أعطت مفاعيل معاكسة بأن أسهمت بطريقة دراماتيكية في تفعيل أذرعها واستنفارهم من البر إلى الجو إلى البحر، بينما يجري تعطيل محور السياسة بشكل متعمد من جانب إسرائيل، ومع ذلك لم تُسقط الولايات المتحدة من خطابها الدبلوماسي عنوان "حل الدولتين" كشرط لاستقرار مستدام في المنطقة.
في الترجمة العملية للسيناريو الأمريكي الخاص بمجريات حرب غزة وما بعدها, بدا ملموسا كيف أن الإدارة الأمريكية أظهرت تأثيرها الجزئي على قادة الحرب الإسرائيليين، وأسهمت في تخفيف حدة الاندفاعة الإسرائيلية خارج الجغرافية الفلسطينية، وثبّطت عزيمة قادتها الانتقامية، وحاصرت النزعة التوسعية التي سعى رئيس الوزراء الإسرائيلي وحلفاؤه في الحكومة إلى خلط الأوراق على مستويات ربما تتعدى حدود الإقليم بكل ما يمكن أن تجلبه من اضطراب وعدم استقرار، لكن ذلك لن يعفي واشنطن من تحمل وزر دم الأبرياء الفلسطينيين المراق إذا ما استمرت في ترددها، أو راوغت في سياساتها، لأن نتنياهو ومجموعته الحكومية المتطرفة تستغل ذلك للتغول بدم الفلسطينيين من طرف، وتؤسس من طرف آخر لقطيعة جذرية مع أي توجهات أو خيارات لها علاقة بقضية السلام مع الفلسطينيين في المرحلة التالية على الحرب، وتحديدا طرح "حل الدولتين" بعد أن جرى على ألسنة المسؤولين الأمريكيين بوضوح، علاوة على الهروب إلى الأمام في مسألة محاكمة نتنياهو وملفات الفساد التي تلاحقه قضائيا.
إذن.. ما خيارات الولايات المتحدة المتاحة لتحويل حرب غزة في الفترة المقبلة إلى "صورة انتصار للسلام" تحل محل صور القتل والدم والدمار؟
يبدو أن المعضلة الراهنة التي تواجه إدارة بايدن تتمثل في الحكومة الإسرائيلية التي يهيمن عليها اليمين المتطرف بزعامة نتنياهو، وليس في الجانب العربي عموما والفلسطيني بشكل خاص، حيث وجد رئيس الوزراء الإسرائيلي خلاصَه بوجود مجموعة متطرفين في حكومته، واستغل إصرارهم على الخيار العسكري وإطالة أمد حربهم، وكل حسب دوافعه وغاياته.
المعطيات التي أنتجتها حرب السابع من أكتوبر/تشرين الأول تحمل إشارات دالة على أن ثمة شكلا مغايرا لواقع الإقليم يلوح في الأفق، وأن موازين القوى ستشهد تغييرات نوعية بعد انكشاف خواء شعار "وحدة الساحات"، ومن الطبيعي أن تتحمل الولايات المتحدة مسؤولياتها السياسية والأخلاقية، باعتبارها القوة العظمى والقطب المهيمن على الساحة الدولية، لصياغة مسار ينسجم مع طروحاتها المتعلقة بحل الدولتين، بعد أن اقتنعت أن مصالحها في المنطقة ستكون في دائرة الخطر المتنامي الناجم عن سياسات إسرائيل، وبعد أن تأكدت أن إسرائيل غير محصنة عندما يتعلق الأمر بحقوق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال وتقرير مصيره على أرضه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة