صحيح أن الانقلابات العسكرية حطمت حلم تأسيس الدولة الحديثة إلا أنها أبقت على بعض مظاهرها، خاصة في الحفاظ على تماسك البنية التحتية
لا يزال العراق يعيش تحت وطأة سلاح الفتاوى، وهي أقوى الأسلحة قاطبة، لا تتردد في إعلان الحرب أو السلم وتقرير مصير الملايين، من المعروف أن الدول تُبنى لبنة إثر لبنة، وتُشيد حجارة إثر حجارة، فقد تأسست الدولة العراقية في 1921 ولكنها للأسف الشديد لم تستمر في بناء نفسها بسبب الانقلابات العسكرية التي أجهضت هذا الحلم، فالهدف الأول والأخير للدولة الحديثة أن تسعى لتحقيق الحياة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ضمن قوانين معلومة، يتعرف عليها الناس ويمارسونها.
من الواضح أن السياسيين يجدون مصلحتهم في هذه الفتاوى، ويعملون على تأييدها وتثبيتها وتشجيعها رغم خوائها في دفع عجلة التقدم إلى الأمام، لا توجد أي فتاوى ضد الوجود الإيراني في مناطق كثيرة من العراق، وإذا نشبت الحرب بين أمريكا وإيران سوف يتحول العراق إلى ساحة حرب
صحيح أن الانقلابات العسكرية حطمت حلم تأسيس الدولة الحديثة إلا أنها أبقت على بعض مظاهرها، خاصة في الحفاظ على تماسك البنية التحتية، إلا أن التحطيم الأكبر للدولة بدأ منذ 2003؛ حيث استند فيها الحكم على مبدأ المحاصصة الطائفية الذي نسف مقومات الدولة الحديثة، وتبني النظام البرلماني أجهز على الدولة، وشرّع الفساد وسرقة المال العام.
وأدى إلى تغلغل أحزاب الإسلام السياسي وتصدره المشهد، تحت هيمنة سلطة القبيلة والعشائرية التي تراجعت في العهود الماضية، لكنها استفحلت وعادت من جديد.
بعد احتلال داعش لأكثر من ثلث مساحة العراق انطلقت المرجعية الدينية الشيعية بإصدار الفتاوى من أجل مواجهة خطر هذا التنظيم، حتى صار يصدر هو الآخر فتاويه، وهكذا أصبحنا بين صنفين من الفتاوى، ولكن أصلهما واحد، وبالأحرى هدفهما واحد، هو استغلال الدين في فرض الفتاوى وتقوية أسس الحكم التي يستند إليهما الجناحان.
ومن هنا بدأت تسميات الروافض والنواصب، كان التنظيم الإرهابي "داعش" يستخدم سلاح الفتاوى، وهكذا يقلده الآخرون، منها حب القائد، ونسف الهوية الوطنية، من خلال "الولاء والبراء"، وغيرها من الفتاوى في الاتجار ببيع أعضاء البشر والتماثيل والآثار ونهب الأموال وإباحة تجارة المخدرات، وكلها منتشرة الآن بشكل واسع في العراق، ويهمين عليها المتنفذون في الأحزاب الدينية التي تشرع كل ما يتلاءم مع مصالحها وبقائها على رأس السلطة.
ولا تزال الجماهير مغيبة تماماً، بل راحت تلهث وراء فتاوى المرجعية، ومنحتها الوجه المقدس، لم تصدر أي فتوى لمقارعة الاحتلال الأمريكي، ولكنها ظهرت في أوقات أخرى. في الوقت الحالي تظهر بعض الأصوات الخافتة لإعلان "الجهاد" على الوجود الأمريكي في العراق، ومنها فتاوى المرجع كاظم الحائري بمواجهة القوات الأمريكية، ولكنها بإيعاز إيراني.
يبقى السؤال الجوهري هنا: ما علاقة الدولة الحديثة بالفتاوى؟ هل نحن نعيش في القرون الوسطى لتكون الفتاوى في قلب السياسة؟ هل يمكن أن تسير الدولة الحديثة التي لها قوانينها وأسسها وآلياتها وأجهزتها بـ"سلاح الفتاوى"؟
لم يصدر هؤلاء المراجع أية فتاوى تتعلق بفساد الدولة، وكان بإمكانهم أن يصدروا الفتاوى ضد الفساد الظاهر للعيان، هذا الفساد الذي أصبح آلة كبيرة لا أحد يقف بوجهها الخفي، فهي مثل شباك العنكبوت تعمل بجهد ومهارة لإيقاع الحشرات المهاجمة بين حبالها.
كما لا توجد أية فتاوى لمعالجة الحالة الاقتصادية المتردية ولا لمعالجة نقص الكهرباء والخدمات ولا بناء المدارس وعودة المهجرين وغيرها.
لم تصدر أية فتوى إزاء استهداف الطائرات الإسرائيلية مخازن الأسلحة التابعة للحشد الشعبي، التابع لإيران؟ وإسرائيل لا تخشى من الجيش العراقي، بل تخشى من عراق متطور علميا، ونظام علماني حقيقي، بينما يعيش العراق الحالي على وقع الفتاوى، ويفضي عليها الفقراء والمساكين والمظلومين القدسية، وينصاعوا إليها، بينما مصالحهم الحقيقية تكمنُ في مكان آخر؛ حيث الدولة الحديثة العادلة التي تضمن حقوقهم ومستقبل أبنائهم بتشريعاتها وقوانينها الوضعية، فالدولة مثل الشركة، هناك الرابحة والخاسرة، الناجحة والفاشلة، المؤسسة والمدمرة.
ماذا تقول الدولة في تقرير الأمم المتحدة الذي أحصى أكثر من 7 ملايين نسمة من العراقيين تحت خط الفقر؟ لا توجد أي فتاوى ضد الفقر! وجميع الحلول المطروحة لظاهرة الفقر ترقيعية تقوم على توزيع الريع النفطي، وعندما تنهار أسعار النفط تنهار معها، وتتسع دائرة الفقر والحرمان من جديد.
والموازنات العامة ما هي إلا قنوات لشرعنة الفساد وهدر المال العام ليس إلا، ورغم جميع المشاكل ينصاع هؤلاء بسبب غسيل الأدمغة إلى "نظرية الفتاوى" التي تصدر من تعاليم "الحوزة"؛ أي دروس الملالي، التي تحفز المظاهرات المليونية، دون الخوض في حل المشاكل الحقيقية، وتمارس هذه الفتاوى فعل السحر على الجماهير، لكي تديم همومهم ومشاكلهم وتزيدها تعقيداً.
كل هذه الفتاوى أصبحت عامل اضطراب وليس عامل استقرار لتلك الدول المنكوبة، وإلا ما هي مصلحة العراق في كل ما يدور الآن، وهو يتمتع بالموارد البشرية والمالية التي تؤهله ليكون في مصاف الدول المتحضرة؟
من الواضح أن السياسيين يجدون مصلحتهم في هذه الفتاوى، ويعملون على تأييدها وتثبيتها وتشجيعها رغم خوائها في دفع عجلة التقدم إلى الأمام، لا توجد أي فتاوى ضد الوجود الإيراني في مناطق كثيرة من العراق، وإذا ما نشبت الحرب بين أمريكا وإيران، سوف يتحول العراق إلى ساحة حرب بسبب تعصّب المليشيات الداعمة لإيران، وأذرعها التي لا تتفشى في العراق فحسب بل في سوريا ولبنان واليمن وغيرها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة