وقائع ومجريات النزاع الأوكراني-الروسي، الذي يطوي شهره الحادي عشر، تشير إلى أن الطرفين المنكوبَين بشكل مباشر هما روسيا وأوكرانيا.
وتأتي أوروبا بعدهما على شكل استنزاف اقتصادي باتجاهين، الأول التزام الغرب تسديد جزء كبير من فاتورة النزاع، والثاني تراجع النمو الاقتصادي لصالح عملية العسكرة على حساب رفاه مجتمعات أوروبا.
هل وصل الغرب إلى نقطة اللا عودة في مد أوكرانيا بالسلاح والمال، فضلا عن الغطاء السياسي في النزاع مع روسيا؟ وإلى أي مدى تعتقد كييف أن قدرة الغرب على تلبية احتياجاتها العسكرية والاقتصادية ستواظب على منسوبها الراهن؟ وهل الرهان الأوكراني والغربي على الموقف الأمريكي الواضح لجهة إطالة أمد النزاع يصب في مصلحة أحد منهما؟
السياسة الغربية الحالية، المتعلقة بالنزاع، باتت أكثر وضوحا، فهي تقوم على توفير مستلزمات استمرار النزاع دون مراعاة نتائج نهجها وانعكاساته على نفسها وعلى أوكرانيا.. فمن الطبيعي أن يبرر المسؤولون الأوروبيون سياساتهم بذريعة "دعم أوكرانيا في الدفاع عن نفسها"، كما يقولون، لكنهم في الآن ذاته يصبُّون الزيت على النار، التي يكتوي بها الأوكرانيون، كما الروس، ولا يسلم منها الأوروبيون أيضًا.
قد تكون أشْهُرُ النزاع حتى الآن غير كافية لبروز ردّات فعل في الشارع الغربي، لكن المرجح تناميها إذا ما اتخذ النزاع سبيلا أكثر خطورة وطال أمده.. عندها يمكن أن يؤدي التصعيد على الجبهات العسكرية إلى تصاعد التذمر السياسي والاجتماعي في الأوساط الغربية.
في بداية النزاع ساد اعتقاد بأن الغرب سيتجه نحو طرح مبادرات سياسية للجْم اندفاعة الطرفين في الميدان لأسباب ذاتية نابعة من حرصه على درء خطر الحرب عن مجتمعاته، وهو الذي كان مسرحا لحربَين عالميتين دفعت ثمنها ملايين الأرواح من أبنائه، بخلاف الدمار الاقتصادي والعُمراني الشامل، وأسباب أخرى موضوعية مردّها أن القارة الأوروبية تُجاور روسيا وتتقاسم معها الحدود والطاقة والتجارة والمصالح الاقتصادية.
لكن برز العامل الأمريكي ليحرف الغربيين عن المسار الدبلوماسي، خدمة لأهداف واشنطن، الرامية إلى تحويل أوكرانيا إلى ساحة استنزاف لروسيا.
السؤال المطروح اليوم: ما الخِيارات التي يمكن لأوروبا طرحها تفاديا لتحولات غير متوقعة في النزاع الروسي الأوكراني وما قد يفرضه عليها من تحديات أمنية وعسكرية واقتصادية؟
الحديث عن قدرة النخبة الأوروبية الحاكمة على فرض تصوراتها على واشنطن لوقف النزاع ومنع انزلاقه إلى مواجهات قد تكون أوسع وأخطر، لا يبدو منطقيا.. القول بأن أوروبا عاجزة عن التأثير في مجمل المشهد الراهن هو الآخر لا يتسق مع قدرات وإمكانيات الأوروبيين المتعددة وتاريخهم السياسي والحضاري.
الإدارة الأمريكية لا تبدو، ظاهريًّا على الأقل، معنيةً في الوقت الراهن بأي خيارات تفاوضية بين كييف وموسكو تقود إلى وقف القتال وترتيب أولويات سياسية مُرْضية للجانبين المتنازعين.. فلن تجد واشنطن نفسها في زاوية ضيقة إن لم يواجهها الأوروبيون بخارطة طريق لحل النزاع، تستند إلى حاملَين:
الأول أوروبي-روسي، والثاني أوروبي-أوكراني.
والحامل الأول يتطلب فتح قنوات اتصال وحوار مع موسكو، على أن يتضمن تقديرًا لهواجسها الأمنية وطمأنتها بشأن عملية توسع الناتو شرقا، والتعهد بإنهاء العقوبات الاقتصادية عليها.
والحامل الثاني يقتضي العمل على إقناع كييف باستحالة الانتصار ضمن معادلة الصراع القائم مع روسيا، والتلويح بعدم استعداد الأوروبيين للانخراط في النزاع العسكري بشكل مباشر، على أن تُبْنى الخارطة على معيار واحد في الاتجاهين الروسي والأوكراني، وملخصه أن استمرار الحرب يعني مزيدا من الدمار واستنزافا غير محدود لمقدرات الجميع، ويعني تقلصا لاحتمالات السلام.
قد تكون نصيحة الجنرال مارك ميلي، رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، بأن "أوكرانيا الآن في موقع قوة، وأن هذا الشتاء قد يكون الوقت المناسب للنظر في محادثات السلام مع روسيا"، جرسَ تنبيه مفيدًا للأوروبيين بشكل خاص كي يغتنموا اللحظة السانحة في ظل توسيع موسكو عملياتها العسكرية، وما يعنيه ذلك من عوامل ضغط على الجانب الأوكراني.
يعتقد بعض الاستراتيجيين الغربيين أن الدور الوقائي لتقليص مخاطر توسع النزاع الروسي الأوكراني، وبلورة رؤية سياسية -استراتيجية الطابع- تلبي تطلعات الطرفين، بحيث توفر لأوكرانيا أمنها ولروسيا مستقبلها، يقع على عاتق الأوروبيين وحدهم، بعد أن تجلَّى التباين في الأهداف بين الولايات المتحدة والأوروبيين وفقا لفلاديسلاف زوبوك، أستاذ التاريخ الدولي في كلية لندن للاقتصاد ومؤلف كتاب "الانهيار.. سقوط الاتحاد السوفييتي"، الذي يقول محذرًا: "لن يربح أحد في حرب طويلة في أوكرانيا.. يجب على الغرب تجنب أخطاء الحرب العالمية الأولى".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة