كعادته مطلع كل عام، التقى البابا فرنسيس، أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد لدى الكرسي الرسولي، لتبادل التهاني بالعام الجديد.
وبدا كأن الحبر الروماني الأعظم يحمل مبادرة للسلام العالمي، في ظل الحروب المنتشرة مجزأة على الأرض، بشكل عام، والصراع الروسي-الأوكراني بنوع خاص.
هل هناك ما يميز رسالة هذا العام؟
ذلك كذلك، إذ تمر ستة عقود على الرسالة الشهيرة، التي وجهها البابا يوحنا الثالث والعشرون، في 11 أبريل/نيسان عام 1963، وحملت اسم "السلام على الأرض"، وقد جاءت بعد أن كادت الأرض تشهد صراعا نوويا بين الولايات المتحدة وبين كوبا، حيث أراد الاتحاد السوفييتي نشر صواريخ باليستية نووية على أراضيها عام 1962.
يكاد اليوم يضحي شبيها بالأمس، فيما الخليقة لا تتعلم، ولهذا يعلو صوت الفقير وراء جدران الفاتيكان، منذرًا ومحذرًا من أن الحرب العالمية الثالثة القائمة حاليا مجزأة، يمكنها أن تضحي -وعند لحظة جنونية بعينها- حربا شاملة كاملة لا تُبقي ولا تذر.
طرح "فرنسيس"، رجل الأخوة الإنسانية، تساؤلا على ممثلي السلك الدبلوماسي بشأن كيفة إعادة ربط خيوط السلام ومن أين نبدأ.
اعتبر البابا كثيرا في رؤيته، ما خطه سلفه، البابا العجوز رونكالي، الذي حمل اسم يوحنا الثالث والعشرين، والذي فتح الكنيسة الرومانية الكاثوليكية على مصراعيها، وفي حياته عقد المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني "1962-1965"، ذاك الذي مهّد الطريق لعلاقة الأخوة بين الشعوب كافة، وتميز بوثيقته الشهيرة "في حاضرات أيامنا"، حيث أعادت الدماء في شرايين أولاد إبراهيم من يهود ومسيحيين ومسلمين.
بناء السلام عند "فرنسيس" في الحقيقة يعني قبل كل شيء احترام الإنسان، احترام "حقه في الوجود والسلامة الجسدية"، وبالقدر نفسه "ضمان الحرية له في البحث عن الحقيقة والتعبير عن فكره ونشره".
يتطلب هذا أن تُسهم السلطات العامة بشكل إيجابي في خلق بيئة بشرية يمكن فيها لجميع أعضاء الجسم الاجتماعي أن يمارسوا ممارسة فعالة حقوقهم، فضلا عن أداء واجباتهم.
يبقى السلام وقبل كل شيء في نظر أسقف روما، مرادفا للدفاع عن الحياة، وهو خير يتعرض اليوم، ليس فقط لسبب النزاعات والجوع والمرض، لكن في كثير من الأحيان، حتى وهو في رحم أمه، بادعاء "الحق في الإجهاض".
تنزع الأخوة الإنسانية كل خوف من الآخر يغذّي الحروب، ويقطع الطريق على السلام، ولهذا لا بد من مواجهة ومجابهة للأحكام المسبقة القائمة على الجهل بالآخر، والتي سريعا ما تتحول إلى صراعات.
يرى "فرنسيس" أن التعليم هو المضاد الحيوي للقضاء على الخوف المدفوع بالجهل، ولهذا يقدم الكرسي الرسولي، بل ويشجع، رؤية متكاملة للتعليم، حيث "تسير معا القيم الدينية وصقل الضمير الأخلاقي، مع مزيد من استيعاب ثراء العناصر العلمية والتقنية".
هل التعليم أحد أهم الدروب لصناعة السلام؟
بحسب "فرنسيس" نعم، ذلك أن التعليم الجيد يتطلب دائما الاحترام الكامل للفرد، وخصائصه الطبيعية، وتجنب فرض رؤية جديدة ومشوشة للإنسان.
وهذا يعني إدماج مسارات النمو البشري والروحي والفكري والمهني، والسماح للفرد بتحرير نفسه من أشكال العبودية المتعددة وتثبيت نفسه في المجتمع بطريقة حرة ومسؤولة.. بهذا المعنى من غير المقبول استبعاد جزء من السكان من التعليم.
يتطلب السلام في ظن البابا فرنسيس اعترافا عالميا بالحرية الدينية.. إنه لَأمر مقلق أن يوجد أناس يتعرضون للاضظهاد لمجرد أنهم يعلنون دينهم علانية، وهناك العديد من البلدان حيث الحرية الدينية محدودة.. ويعيش نحو ثلث سكان العالم في هذه الحالة.
يذكرنا الحَبر الأعظم بأن السلام في حاجة إلى إسهام رجال ذوي نيّات حسنة، مثل أولئك الذين استطاعوا استنقاذ العالم عام 1962 من وهدة الحرب النووية.. رجال عرفوا كيف يجدون الحلول المناسبة التي منعت التوتر السياسي من التحول إلى حرب حقيقية.
ويذكّرنا فرنسيس بأن الهدف الرئيس، الذي من أجله قامت منظمة الأمم المتحدة، هو الحفاظ على السلام وتوطيده بين الشعوب، وتنمية العلاقات الودية فيما بينها، على أساس مبادئ المساواة والاحترام المتبادل والتعاون متعدد الأوجه في جميع مجالات العيش معا.
لا يزال فرنسيس على قناعة بأنه ما من سلام من غير العودة إلى الحوار والاستماع المتبادل والتفاوض، وتعزيز المسؤوليات المشتركة والتعاون في
البحث عن الخير العام، باسم ذلك التضامن الذي يأتي من معرفة أننا مسؤولون عن ضعف الآخرين من خلال السعي لتحقيق مصير مشترك.
يبدو موقف فرنسيس من فكرة الدولة الويستفالية -ذات السيادة الكاملة- واضحا، ولا يوارب الأبواب، سيما أن العالم برمته يعرف موقفه من الحرب الروسية في أوكرانيا.
يشدد البابا الروماني على أن بناء السلام يتطلب ألا يكون هناك مجال للإضرار بحرية وسلام وأمن الدول الأخرى، بغض النظر عن مساحة أراضيها أو قدرتها الدفاعية.
هل هذا ممكن بالفعل؟
نعم، يقول رجل الأخوة الإنسانية، بشرط ألا تسود ثقافة الظلم والعدوان في كل المجتمعات، والتي تجعلنا نرى في جارنا عدوا يجب مقاتلته، بدلا من أخ نرحب به ونعانقه.
القراءة المعمقة لخطوط الطول والعرض لمبادرة فرنسيس لسلام عالمي، تعلمنا أن القضية ليست مجرد وقف إطلاق النار، بل هي أعمق وأبعد من ذلك بكثير، إنها نسق حياة يومي يطرد الكراهية خارجا، ويصنع عوضا عنها جسور من المحبات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة