رغم عضويتهما في حلف شمال الأطلسي "الناتو"، فإن الخلافات الأمريكية-التركية تراكمت خلال السنوات الماضية.
إذ بدت لكل طرف أولويات مختلفة إزاء سلسلة قضايا حساسة، فمن الخلاف على الدعم الأمريكي لقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، التي تصفها أنقرة "إرهابية" وتعدّها واشنطن حليفا موثوقا لمحاربة تنظيم "داعش" الإرهابي، إلى الموقف الأمريكي الداعم لليونان وقبرص وصفقات السلاح معهما، مرورا بشراء تركيا المنظومة الصاروخية الدفاعية الروسية "إس-400" رغم الرفض الأمريكي والأطلسي، وصولا إلى رفض تركيا طلب الغرب الانضمام إلى العقوبات الأمريكية-الأطلسية على روسيا بسبب أزمة أوكرانيا.
كلها إذًا ملفات خلافية بين الجانبين، وصلت في محطات منها إلى إخراج الولايات المتحدة تركيا من برنامج طائرات "إف-35"، وألغت العقود، التي كانت أبرمت معها لشراء أكثر من مئة مقاتلة من هذا النوع، لكن رغم كل هذه الخلافات، ثمة حرص مشترك للإبقاء على العلاقة التاريخية بينهما.
فتركيا، التي ذهبت بعيدا في علاقاتها مع روسيا والصين، لا تريد أن ترى نفسها خارج حلف الناتو بوصفه أكبر مظلة أمنية في العالم، كما أن واشنطن، التي تنظر بأهمية بالغة إلى موقع تركيا الجيوسياسي، لا تريد أن ترى تركيا إلا حليفا لها في العلاقات والصراعات الدولية الجارية في العالم، لا سيما مع اشتداد الأزمة الأوكرانية، التي أعطت تركيا أهمية جيوسياسية كبيرة.
زيارة وزير الخارجية التركي، مولود تشاويش أوغلو، إلى واشنطن في هذا التوقيت حملت رسائل عدة، أهمها استعداد أنقرة لتدوير الخلافات مع واشنطن، وربما حمَل الرجل معه عروضا وصفقاتٍ من أجل ذلك.
وفي هذا السياق ينبغي الالتفات إلى تأجيل الاجتماع، الذي جرى الحديث عنه بين وزيري الخارجية التركي والسوري، منتصف الشهر الجاري، رغم أن تأجيل اللقاء بدا في الشكل كأنه نتيجة تصلُّب المواقف، والتي أبرزها الجانبان بخصوص التقدم نحو المصالحة عبر رفع مستوى اللقاءات من الأمني والعسكري إلى السياسي، ويبدو أن الانتقاد الأمريكي للمصالحة بين أنقرة ودمشق ربما له وقع لدى أنقرة على شكل محاولة فهم الاستراتيجية الأمريكية إزاء سوريا في المرحلة المقبلة.
في المقابل، بدت واشنطن حريصة على إرسال رسائل إيجابية إلى أنقرة في هذا التوقيت لمحاولة الحد من الخلافات بينهما، وما موافقة إدارة بايدن على بيع تركيا طائرات مقاتلة من نوع إف-16 في هذا التوقيت، بعد أن كانت تركيا تقدمت بطلب شراء 40 طائرة من هذا النوع في عام 2021، إلا تعبير عن رغبة أمريكية في تدوير الخلافات بين الجانبين، رغم أن الصفقة قد تواجه اعتراضاتٍ قويةً في الكونغرس الأمريكي.
في رسائل زيارة "أوغلو" إلى واشنطن في هذا التوقيت أيضا بدت حكومة "العدالة والتنمية" بحاجة إلى اختراق في العلاقة مع واشنطن قبل الذهاب إلى الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة الصيف المقبل، لا للفوز بهذه الانتخابات فحسب، بل لترتيب أوراق السياسة التركية في المرحلة المقبلة مع واشنطن.
ولعل تركيا تُبدي الاهتمام بالحصول على توافقات مع الإدارة الأمريكية إزاء قضايا مهمة، أولها قضية الموافقة التركية على انضمام السويد وفنلندا إلى عضوية حلف الناتو، وهنا تأتي أهمية طرح الإدارة الأمريكية بيع تركيا طائرات إف-16، فيما تبقى قضية الدعم الأمريكي لـ"قسد" صعبة التوصل إلى تفاهمات في ظل الإصرار الأمريكي على مواصلة هذا الدعم، مقابل إصرار تركي على محاربتها، بوصفها "تشكل تهديدا للأمن القومي التركي"، بحسب تركيا، ما قد يعني مُراوحة هذا الملف الخلافي مكانه، وبما يشكل تحديا للإدارة الأمريكية في كيفية التوفيق بين الحليفين التركي والكُردي، "قسد"، ووضع قواعد وآليات لمنع الصدام بينهما، أو حتى عملية عسكرية جديدة لا تتوقف أنقرة عن التهديد بها.
رغم حرص الجانبين الأمريكي والتركي على تدوير خلافاتهما، وضبط بوصلة العلاقات التاريخية بينهما، فمن الواضح أن ثمة تحدياتٍ كبيرةً ناتجة عن اختلاف الأولويات والاستراتيجيات، فواشنطن تريد من تدوير الخلافات مع أنقرة دفع الأخيرة لاتخاذ موقف واضح ضد روسيا في أزمة أوكرانيا، فيما أنقرة باتت تجد نفسها محكومة بتوظيف أوراقها الجيوسياسية في كل الاتجاهات لزيادة نفوذها ودورها الإقليميين، ما يجعل من المقايضة في القضايا سمة تطبع العلاقة بين الجانبين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة