تتجه سياسة تركيا نحو مزيد من الواقعية السياسية في تعاملاتها الإقليمية، خاصة تجاه مصر وسوريا ودول الخليج العربي.
وقد تبنت السياسة التركية الواقعية ومقاربة المصالح، معتمدةً على ثلاثة نماذج في التعامل.
النموذج الأول: نجح في التعامل مع إسرائيل وفقا لمقاربة جادة اعتمدت خِيار تكثيف الاقتصاد والتعاون الاقتصادي والعسكري، وتمت تنحية التعاملات السياسية في نطاقاتها الإقليمية، حتى تمت الاتصالات واللقاءات الدبلوماسية والأمنية والتوافق وفق صيغةٍ تَرَاضى بها الجانبان.
وهذا النموذج صالح للتطبيق مع الدول الأخرى، التي تحاول السياسة التركية التعامل معها، أو بناء مقاربات حقيقية جديدة في ظل ما يجري من تطورات في الإقليم، على اعتبار أن هذا النموذج نجح في تقديم نفسه، بمعنى إتمام توافقات في ملفات، وتأجيل النظر في بعضها محل الجدال، أو عدم التوافق، ولو الشكلي.
الثاني: يجري في منظومة العلاقات المصرية التركية الراهنة، ومحاولة تطويرها والانتقال بها إلى مساحة توافقية، خاصة بعد مصافحة الرئيسين المصري والتركي في قطر خلال افتتاح كأس العالم لكرة القدم، وهو ما خلص إلى وجود مساحات توافق قائمة، مع التقدير أن ما تستهدفه تركيا في إطار العلاقات مع مصر يحتاج إلى مراجعة في الإطار الثنائي، حيث تم التجاوب مع مطالب مصرية تتعلق بجماعة الإخوان، ولكن تبقى ملفات يمكن أن تُؤجِّل أي مساحات توافق إقليمي حقيقي، كالملف الليبي، وهو ما تُبدي فيه القاهرة تحفظاتٍ حول إدارة المشهد السياسي والاستراتيجي ومنطقة شرق المتوسط وصراعات الغاز، التي تحتاج إلى "توافق واتفاقيات وترسيم حدود وتحديد مصالح".
وبالتالي فإن التحاق تركيا بمنتدى "غاز المتوسط" سيحتاج إلى ضوابط والتزامات مهمة من جانبها، ولهذا فإن التحفظ في النموذج الراهن مرتبط بسلوك الجانب التركي، وليس المصري، على اعتبار أن ما يصلح مع الحالة الإسرائيلية لا يصلح مع الحالة المصرية الراهنة، والتي تريد مقاربة شاملة، وليس الدخول في تفاهمات محددة، وتأجيل أو إعادة النظر في بعض الملفات الأخرى.
الثالث: يتمثل في التعامل مع دولة جوار، وهي سوريا، ومسعى الرئيس التركي للمصالحة معها، بعد سنوات طويلة من الخلاف، وهو ما برز في التحركات الأخيرة عبر دعم روسي، وتحركات مشتركة تركية-سورية مدعومة بجهد لافت لدولة الإمارات تجاه كل الأطراف، حيث أسهم التحرك الإماراتي في حلحلة المشهد الثنائي، وانفتاح على كل الأطراف في تقريب وجهات النظر، فالنظام السوري يسعى لإعادة بناء دوره إقليميا، وهناك دول كبيرة وازنة في الإقليم تعمل على هذا المسار مدعومة بتحرك روسي أيضا لتصفية المشكلات العالقة، وإعادة بناء شراكات سياسية حقيقية تعيد ترتيب الأوراق بحثًا عن هدف محدد في ظل شروط تركية محددة، ولمواجهة مخاطر الإرهاب وفق المنطق التركي الراهن.
وسواء نجحت أو تأجلت المصالحة مع سوريا، ستظل تركيا تبحث عن حضورها السياسي والاستراتيجي في الملف السوري، وستعمل على حسمه، لكن ربما بعد الانتخابات المقبلة.
الطرح التركي الراهن يستهدف فعلا "تصفير المشكلات"، ما يمكن أن يسهم في رفع شعبية الحزب الحاكم قبل الانتخابات التشريعية والرئاسية، وعدم إعطاء المعارضة التركية فرصة للحديث عن أي إخفاقات تجاه دول الإقليم.
وتدرك السياسة التركية أنها يمكن أن تحقق مصالحها الكبرى عبر مرتكز الاقتصاد، ما يفسر الدور التركي في التعامل مع أزمة الغذاء ونقل الحبوب والتخطيط للتحول لمركز عالمي في هذا الإطار، حيث تعمل في مساحات حذرة بحثا عن فرص للتعامل مع الجانبين الروسي والأمريكي، وامتلاك أوراق ضاغطة في مواجهة كل الأطراف، بما فيها الناتو.
في المجمل، ستبقى سياسة تركيا عنوانا للواقعية، خاصة أنها تتحرك في مسارح عمليات متعددة وعبر استراتيجية تدوير المصالح، بحثا عن مقاربات عاجلة، ولتوجيه رسالة للرأي العام التركي بأن الرئيس رجب طيب أردوغان قادرٌ على أن يحفظ مصالح تركيا الكبرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة