قدمت الأزمة الأوكرانية كشفا واضحا لحقيقة أن العلاقات المشروطة بين روسيا والغرب، أغلقت باب التعايش وفتحت باب القطيعة الشاملة.
أنظر إلى المعركة على وجهيها، وسترى أن مشاعر الانتقام هي التي تقف خلف الباب على الجانبين، وإن وحوشها تنفث كل ما يسعها من لهيب الغضب، تحت وطأة الاعتقاد أن الطرف الآخر خان التزاماته.
هذا الواقع يتفاقم الآن بالمقاطعة والعقوبات إلى درجة غير مسبوقة، ليقدم تأكيدا على أن المعركة تدفع الطرفين إلى الخنادق، أمنيا واقتصاديا وإنسانيا، لأنها ستطول وتمتد إلى ما بعد "وقف إطلاق النار".
فما يجري عمليا ليس أقل من حرب باردة تُخاض في كل المرافق وعلى كل المستويات.
انسحاب العديد من الشركات الكبرى من روسيا، لا يخلف وراءه أضرارا بالروابط الاقتصادية بين روسيا والأسواق العالمية، ولكنه يخلف أضرارا للشركات المنسحبة نفسها، ومن بينها شركات نفط مثل "بي.بي" و"شل" آثرت أن تشطب استثمارات وأسهم في روسيا تقدر قيمتها بمئات المليارات. وهو ما يقدم إشارة أولى على أن العقوبات لن تنتهي بانتهاء الحرب. كما يقدم إشارة على أن علاقات ما بعد الحرب لن تكون هي نفسها علاقات ما قبل الحرب.
السبب يعود إلى أن الثقة المعدومة من قبل، أخلت مكانها إلى عداوة قد تحتاج إلى عقد أو عقدين من الزمن حتى يمكن تغيير مجراها الكارثي. ولن يحدث ذلك في عهد الرئيس فلاديمير بوتين على الأقل، وربما ولا القادة على الطرف الآخر.
الأوكرانيون أنفسهم الذين لا يوفر لهم الحلف الأطلسي غطاء، خشية من تحوّل الحرب الباردة إلى حرب ساخنة، كانوا قد اندفعوا إلى طلب عضوية الأطلسي انطلاقا من سياسات انعدام الثقة، التي جعلت قطاعا كبيرا منهم يناصبون روسيا العداء.
ويبدو أن العداء هو الذي ينتصر. فما تهشم في العلاقات بين روسيا وأوكرانيا لن يعود إصلاحه ممكنا. وسواء أملت روسيا مطالبها على أوكرانيا، أم لا، فإن النتيجة واحدة تقريبا.
أوكرانيا المهزومة لن تتسامح مع روسيا المنتصرة. وروسيا المهزومة لن تغفر لأوكرانيا المنتصرة. والحرب القائمة، بآلامها وأضرارها، لن تترك في المشاعر سبيلا حتى للقبول بحلول وسط، يستطيع المتحاربون أن يخرجوا منها بصيغة "لا غالب ولا مغلوب". فالذين هُدمت منازلهم، وفقدوا أبناءهم، وعاشوا أياما وأسابيع تحت القصف، وتشردوا بحثا عن مأوى، خاسرون في الحالتين.
لا تستطيع روسيا أن تقول إن الغرب يعاملها بكراهية. الاستثمارات الغربية الضخمة، والعلاقات التجارية الواسعة، وحجم أعمال الشركات الغربية الكبرى داخل روسيا، لا تقدم دليلا على ذلك. ولا العكس بالضرورة. إلا أنها تقدم دليلا على أن سياسة "الباب المفتوح" كانت هي الأساس في العلاقات الغربية مع روسيا ما بعد انحلال الاتحاد السوفييتي.
هذه السياسة كانت مشروطة ضمنيا، بأن تتخلى روسيا عن تطلعاتها كقوة عظمى منافسة. وأن تتعايش مع واقع أن التحالف الغربي هو القوة التي تضع القواعد وتقرر الالتزامات.
القوة، من وجهة نظر هذا التحالف، ليست ما إذا كنت تملك قنابل نووية أو صواريخ، يملك الآخرون مثلها أو أكثر. ولكنها قوة نفوذ اقتصادي بالدرجة الأولى؛ قوة تستوعب أن تمتص خسائر لم تقل عن 15 تريليون دولار في مواجهة وباء مثل كورونا.
ولكن لا يستطيع هذا التحالف نفسه، أن يتجاهل أن روسيا ما تزال واقعة تحت تأثير تاريخ إمبراطوري، يكاد يكون هو تاريخها كله. وكان يقتضي الامتناع عن إيقاظ وحوشه. وأوكرانيا، على وجه الخصوص، هي الجزء الأكثر حساسية لاستثارة الوحوش النائمة.
من "إيفان الرابع" الذي حمل لقب القيصر في العام 1547 إلى "بطرس العظيم" الذي أنشأ الإمبراطورية الروسية عام 1721، إلى ميخائيل غورباتشوف الذي هدمها في العام 1991، فإن الدولة الروسية الحديثة التي لا يزيد عمرها عن 31 عاما، لم تتحرر من انطباعات وتطلعات القوة العظمى التي تريد أن تجيز لنفسها ما يجيزه الآخرون لأنفسهم.
تحالف القوة الاقتصادية الغربي يريد الآن أن يقطع الغصن الروسي من الشجرة. وما لم تتحرر الدولة الروسية الحديثة من تطلعاتها الإمبراطورية، فإنها ستظل غصنا مقطوعا.
هذا هو المعنى من وراء سعة المقاطعة والعقوبات. وهو ما لا ينفع فيه نصر ولا هزيمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة