أردوغان يعلم كلّ العلم ويدرك كلّ الإدراك أن مصر بوابة العرب وأنها حصن العروبة والسد المنيع الذي يواجه مشروعه
لا يترك الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مناسبة إلا ويهاجم فيها الدولة المصرية مدفوعا بتعصبه ودعمه لجماعة الإخوان المسلمين دون أي اعتبار للشؤون الداخلية المصرية؛ مع العلم أن قضية "الإخوان" والصراع مع الحكومات والأنظمة المتعاقبة على مصر كانت قبل أن يُولد أردوغان نفسه وهي قضية شأن داخلي بامتياز لا يجدر بأي كان أن يتجرأ ويتدخل بها.
ولكن على الرغم من ذلك فلا يمرر "السلطان العثماني" فرصة دون أن ينال من مصر بتصريح أو بتلميح انطلاقا من تبنيه للفكر الإخواني. وكان آخر هذه التصريحات ما أتى عليه مؤخرا إبان انعقاد القمة العربية الأوروبية الأولى في مصر وتحديدا في شرم الشيخ ليطالعها الرئيس التركي بالتنديد والتأكيد على أنّها تنعقد في بلد ذي نظام يعدم معارضيه للتشويش على القمة وإحداث ضجة إعلامية تخطف الأضواء عما يمكن أن تقدمه مثل هذه القمة التاريخية الأولى من نوعها.
لن تنزلق مصر كدولة إلى مستوى الرد على مثل هذه التصريحات الخاوية؛ فمصر عزيزة وستبقى، وأردوغان لن يكبر بمهاجمتها بل سيزداد حجمه ضآلة أمام دورها في حفظ ما تبقى من عروبتنا المهددة من إيران إلى تركيا وغيرهما من الدول الطامعة وليس انتهاء بإسرائيل
من يحكم مصر ومن يحدد طبيعة نظامها هو الشعب المصري وحده المخول بذلك، وقضية الأمن المصري ومعارضة الحكم أو موالاته هي أيضا شأن داخلي مصري كما في أي دولة في العالم. وهذه المبادئ هي أبجدية السياسة، ولكن المقصود من كل هذه الأصوات والضجيج هو ضرب المشروع العربي عموما وذلك في ضوء المستجدات التي أخرجت العديد من الدول العربية عن مسارها العربي من خلال ضرب أمنها واستقرارها لتتحول إلى أنقاض دول تصارع من أجل البقاء كالعراق وسوريا واليمن وليبيا، ليتم بعدها تنفيذ الأطراف الفاعلة فيها دون حضور أي كيان عربي قادر على مواجهتها. ولتحقيق هذه الغاية، لابد من القضاء على مصر وإلهائها بأمنها ووضعها على قائمة الصراع من أجل تشتيت أحد أهم الدول العربية.
فقد كانت وما زالت مصر -كدولة- صمام الأمان للكيان العربي، ونقول كيانا؛ لأن القضية اليوم قضية وجود بالنسبة لكل العرب، وقد نجت أرض الكنانة من الموجة الأولى في فورة الربيع العربي فأصبحت بذلك آخر حصن عربي وهذا ما لم يرق للمتربصين بها فأرسلوا إليها جحافل الإرهاب من داعش وغيره ولكنهم لم ينالوا مرادهم فلم يبقَ أمام من يريد نهايتها إلا الورقة الأخيرة وهي إثارة البلبلة وتحريض الداخل المصري ليشتعل فتيل الفتنة من جديد وتهدم مصر على يد أبنائها. كل ذلك لأن مصر ليست سهلة المنال بل هي دولة ذات تاريخ عريق وصراع طويل مع الخارج الذي لطالما تحطمت مشاريعه في مواجهتها بالإضافة إلى امتلاكها مؤسسة عسكرية وأمنية منضبطة خبيرة لم تعرف الضعف يوما في أي مواجهة.
ويتمثل المشروع الأردوغاني بتقويض الأنظمة العربية ودعم الفكر الإخواني لجلب هذا الفكر إلى سدة الحكم ليكون تابعا للسلطان وأوهامه الذي لم يستطع خلال ما يقارب عقدا من الزمن أن ينال ثقة محيطه من الدول العربية؛ فظل معزولا -إذا ما استثنينا قطر- عن الجانب العربي، وهو المدفوع بأوهام السلطنة العثمانية التي لن تخرج مأساتها من ذاكرة العرب، فجنح أردوغان إلى ركوب موجة الاضطرابات لتمرير أجنداته الإخوانية ليسيطر على البلدان العربية ولكن بعد أن اقتنع أردوغان بفشل مشروعه وأنّه ما من مشروع يمكن أن ينجح ليصبح عربيا إلا مرورا بمصر، والتاريخ على ذلك شاهد.
فما أن اتخذت مصر الاتجاه القومي في مطلع القرن العشرين حتى صار المشروع عربيا وأصبحت الدول العربية عموما ذات اتجاه قومي حتى التخلص من كل أشكال الاحتلال والاستعمار، وعندما تبنت مصر الفكر الاشتراكي قُبيل منتصف القرن العشرين تحولت أغلب الدول العربية إلى الفكر الاشتراكي في تأسيس نظام الحكم. واليوم بعد أن فشل أردوغان -على الرغم من أن محاولاته ما زالت قائمة- في سوريا وليبيا وتونس في تمرير المشروع الإخواني؛ أدرك أن هذا الفكر لن يكتب له الامتداد والحياة إن لم تهدم الدولة المصرية ليتسلق هذا الفكر هرم السلطة ومن ثم ينتشر كالنار في الهشيم مجتاحا الدول العربية كافة، مؤتمرا بأمر مرشده في إسطنبول ولتكون السلطنة الأردوغانية بالمد الإخواني أسوة بالمد الإيراني الذي اجتاح عدة دول عربية قد تحققت، ولكن هذا صعب المنال؛ لذلك نجد أن هذا المشروع محارب من كل العرب فيما عدا قطر التي تسبح في فلك الإخوان وفي مدار أردوغان.
إن أردوغان وإن كان خبيث النوايا إلا أنه ليس غبيا وهو يعلم كلّ العلم ويدرك كلّ الإدراك أن مصر بوابة العرب وأنها حصن العروبة والسد المنيع الذي يواجه مشروعه؛ لذا فهو يهاجمها ليل نهار سرا وعلانية علّ الفتنة تنهش كيانها وتنهار مصر لتتتابع الدول العربية في السقوط كأحجار الدومينو لتعلن الإذعان للسلطان الجديد.
هذا بالفعل ما يريده أردوغان من مصر، ولكن ما لا يعلمه الرجل المتقلب أنّ الشعوب العربية وإن خاصمت وعارضت حكوماتها إلا أنها لن تقبل بهذا المشروع مهما كان الثمن؛ ولنا في التجربة المصرية خير دليل، فعلى الرغم من أن الإخوان في مصر ومنذ ثمانينيات القرن المنصرم حتى مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين وهم يتمتعون برخصة سياسية وتمثيل برلماني لم يستطيعوا الوصول إلى السلطة إلا بتسلق الاضطرابات التي شهدتها مصر إبان ثورة يناير عام 2011، ولفترة وجيزة لم تتجاوز شهرين وفي تونس وإن تولى الإخوان الحكم بعد الثورة التونسية من العام ذاته من خلال حزب النهضة الذي لم يستطع تحقيق شيء سوى أنّه ومن خلال تصرفاته غير المرضية للتونسيين فضح المشروع الإخواني والذي بات مهددا بالسقوط في تونس وبأي لحظة.
الجدير بالذكر أن الجانب المصري متزن ولا يعير أردوغان وتصريحاته بالا فهم –المصريون- أصحاب الدار وأصحاب القضية وأهل مكة أدرى بشعابها وهم يعلمون ما في الداخل المصري أكثر من أي أحد آخر وعلى يقين تام بأن هذا المشروع ليس سوى تصريحات بلا معنى وأن الشعب المصري لن ينحدر في هذا المنزلق، وبالتالي لن تنزلق مصر كدولة إلى مستوى الرد على مثل هذه التصريحات الخاوية؛ فمصر عزيزة وستبقى وأردوغان لن يكبر بمهاجمتها بل سيزداد حجمه ضآلة أمام دورها في حفظ ما تبقى من عروبتنا المهددة من إيران إلى تركيا وغيرهما من الدول الطامعة وليس انتهاء بإسرائيل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة