النظام العالمي الراهن ليس مثاليا، ولكن تواجه الراغبين في بناء نظام جديد معضلة تتمثل في أن العالم لم يعد قابلا للانقسام بين معسكرين.
حقائق التجارة وحدها تكفي للقول إن إقامة حواجز سياسية بين الدول لم يعد مما يمكن تحقيقه.
الصين، بوصفها ثاني أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد الولايات المتحدة، تبدو وكأنها الأكثر تأهيلا لبناء نظام عالمي جديد، إلا أن ارتباطها التجاري بالولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يجعل من المستحيل للصين أن تتقدم كطرف مضاد على جهة أي انقسام.
التبادل التجاري بين الولايات المتحدة والصين في العام 2022 بلغ، بحسب البيانات الرسمية الأمريكية، 690 مليار دولار. وكان الفائض التجاري لصالح الصين من هذا التبادل قد بلغ 383 مليار دولار.
وفي حين تستورد الصين سلعا وخدمات تبلغ نحو 240 مليار دولار من الولايات المتحدة، فهناك بين هذه الصادرات رقم صغير في حجمه وكبير في معناه، وهو أن الصين هي أكبر سوق للصادرات الزراعية الأمريكية لثلاث سنوات متوالية. وإجمالي هذه الصادرات يبلغ 34 مليار دولار، ولكنه يعكس اعتمادا غذائيا حقيقيا على الولايات المتحدة.
الصورة ليست أقل جلاء في معانيها عندما يتعلق الأمر بالتبادلات التجارية بين الصين والاتحاد الأوروبي، فقد بلغ حجم التجارة بين الاتحاد الأوروبي والصين في العام 2022 ما يعادل 912.6 مليار دولار، منها 318 مليار دولار مع ألمانيا وحدها، وفقاً لمكتب الإحصاء الفيدرالي (ديستاتيس).
كما أن الصين تعد ثاني أكبر شريك تجاري لبريطانيا على صعيد الواردات، وخامس أكبر شريك على صعيد الصادرات، بحسب إحصاءات العام الماضي نفسه.
فإذا كان لا يمكن لعاقل أن يتخيل نظاما عالميا جديدا من دون الصين، فإنه لا يوجد عاقل يمكنه أن يغامر بانقسامات في عالم تتداخل مصالحه إلى هذه الدرجة.
وكالة شينخوا الصينية نقلت عن يورجن ماثيس، الخبير بالمعهد الاقتصادي الألماني، في فبراير/شباط الماضي، قوله إن "الاقتصاد الصيني كبير إلى درجة يصعب معها فك الارتباط معه تماما.. لا أحد يريد ذلك، وهذا ليس منطقيا".
لا يحتاج الأمر، في المقابل، إلى الكثير لمعرفة أن نحو ثلاثة تريليونات دولار من التبادلات التجارية مع العالم الغربي، شيء لا يمكن الاستغناء عنه بالنسبة للصين أيضا. هذا الرقم يعادل نحو نصف إجمالي التجارة الصينية مع كل دول العالم الذي يبلغ 5.9 تريليون دولار.
فإذا كان التعويل في تغذية الانقسام، يقوم على استقطاب أجزاء أخرى من العالم، فالحقيقة هي أن دول أفريقيا ورابطة جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية تقيم علاقات متوازنة مع الكتلتين الاقتصاديتين الكبيرتين في العالم. وما من دولة واحدة فيها يمكنها مجرد التفكير في أن تقبل الانخراط في معسكر دون آخر تحت لافتة السعي لبناء نظام عالمي جديد.
الحقائق الاقتصادية هي من أخشن الحقائق، وعلى أساسها يمكن بناء التصورات السياسية والتحالفات، وليس العكس.
لقد عرف العالم وضعا معكوسا من قبل، أيام الحرب الباردة، وأيام كان ينقسم بين سوقين منفصلين "اشتراكي" و"رأسمالي". وكانت تلك الأيام بائسة، بل مدمرة للعديد من الدول التي وجدت نفسها ضحية إما لحروب "بالوكالة" أو لصراعات دامية، أو حتى حروب أهلية مدفوعة بتناحرات أيديولوجية.
تلك الأيام زالت، ولم يعد بوسع أي انقسام سياسي أن يعيد عجلتها إلى الوراء.
ومع ذلك، فإن النظام العالمي الراهن يحتاج إلى تجديد بالفعل، إنما ليس انطلاقا من معايير أيديولوجية تمت هزيمتها في الماضي، ولكن انطلاقا من هذه الحقائق الخشنة نفسها.
لا أهواء، ولا مطامع، ولا رهانات على كسر نفوذ أو مصالح أي طرف، وذلك بما يدفع إلى أن يكون نظاما عالميا مفتوحا ومتداخلا ومتكاملا كما هو حال الواقع الراهن.
قد يستوجب الاعتراف بالواقع، اعترافا بحقيقة أن العديد من المؤسسات الدولية، ومنها مجلس الأمن، لم تعد تتناسب مع ما تغير في العالم منذ أن سادت ثورة الاتصالات الحديثة فيه. فظهرت قوى اقتصادية جديدة، وتكاتفت كتل وتداخلت مصالح وضعت منطق الانقسام أو القطيعة خلفها.
القوى الدولية الكبرى، وبعضها هو الذي أسهم في صناعة هذا الواقع، لا يحتاج أكثر من أن يعترف به، ويقبل حقائقه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة