لم تعد المنصات الاجتماعية مجرد أدوات للتواصل، بل أصبحت مصانع للرأي العام، تصوغ وعي الشعوب وتوجّه بوصلتها الفكرية.
وبينما كانت هذه المنصات في بداياتها تُبنى على قيم الحرية والانفتاح، تحولت اليوم إلى منظومات معقدة تحكمها الخوارزميات أكثر مما يحكمها الإنسان، لتصبح الأخلاق آخر ما يُراعى في معادلاتها.
منصة X (تويتر سابقاً) نموذج صارخ لهذا التحول. فقد كانت في زمنٍ قريب منبرًا للنقاش، وحاضنة للأفكار والتنوّع. لكن بعد أن فُتحت خوارزمياتها بلا ضوابط أخلاقية، تحوّلت إلى ساحة فوضى رقمية، يتصدر فيها الخطاب المتشنّج والمحتوى المثير للانقسام.
فالخوارزمية – التي صُممت لتكافئ التفاعل – صارت تكافئ الضجيج، لا القيمة. ومع غياب التوازن بين الحرية والمسؤولية، تآكلت الثقة، وبدأ المستخدمون يهاجرون إلى منصات أكثر احترامًا للعقل والإنسان.
الخطر الحقيقي لا يكمن في التقنية ذاتها، بل في غياب الفلسفة الأخلاقية التي تضبطها.
فحين تُبرمج الخوارزميات لتزيد الأرباح بغض النظر عن نوعية المحتوى، فإنها تُسهم في نشر الكراهية، وتطبيع العنف اللفظي، وتضخيم الظواهر السلبية. هكذا تتحول المنصة من فضاء للتعبير إلى مختبر لقياس الغرائز الجماعية.
إن الحديث عن «حرية التعبير» لا يمكن فصله عن «مسؤولية النشر». فكل حرية بلا وعي تتحول إلى فوضى، وكل منصة بلا قيم تتحول إلى أداة ابتلاع للوعي العام.
لذلك، فإن التحدي القادم في عالم التواصل الاجتماعي ليس في تطوير الذكاء الاصطناعي، بل في إعادة إحياء الضمير الإنساني داخل الخوارزمية نفسها.
لقد آن الأوان لأن تُدار المنصات الكبرى بعقول تدرك أن التقنية ليست غاية، بل وسيلة لخدمة الإنسان، لا لتفكيكه. فالعالم لا يحتاج إلى المزيد من الضجيج، بل إلى خوارزميات تنصت لصوت العقل، وتمنح الكلمة مساحة تليق بكرامة الإنسان.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة