منذ أن دخل الذكاء الاصطناعي إلى الفصول الدراسية، ارتفعت الأسئلة الوجودية.. هل سيحلّ الروبوت محلّ المعلّم؟
تبدو الفكرة مغرية على الورق: آلة لا تملّ، تشرح بلا انقطاع، تصحّح بلا خطأ، ولا تعرف التعب أو الانفعال.
لكنّ هذا التصوّر، مهما بدا منسجمًا مع منطق الكفاءة التقنية، يبسّط جوهر العملية التربوية التي هي فعل إنساني قبل أن تكون عملية تقنية.
فالمعلّم ليس مجرّد ناقل للمعلومات، بل مهندس للتجربة التعليمية، وموجّه للوعي، وبانٍ للثقة.
وفي عصر الذكاء الاصطناعي، لن يختفي دوره، بل سيتحوّل من مركز المعرفة إلى قائد التعلّم الذي يطوّع الخوارزميات لخدمة الإنسان لا العكس.
الخطر الحقيقي لا يكمن في أن تحلّ الآلة محلّ المعلّم، بل في أن نختزل التعليم في معادلات حسابية، وأن ننسى أن التربية هي حوار بين عقولٍ وأرواح، وليست مجرّد تدفّقٍ للبيانات بين جهازين.
لقد غيّر الذكاء الاصطناعي صورة المعلّم القديم بوصفه “السلطة المعرفية المطلقة”،
لكنّه، بالعكس، أعاد إليه دوره الأعمق: أن يكون القدوة والمُلهم والموجّه.
فالخوارزمية تستطيع أن تشرح الدرس، لكنها لا تستطيع أن تزرع الشغف، أو تبني شخصية، أو تُلهم حلمًا بمفردها وفي الوقت الحالي.
ولكي يتكيّف المعلّم مع هذا العالم الجديد، لا بدّ أن يمتلك ثلاث مهارات أساسية تمثّل مفاتيح مهنته المستقبلية:
مهارة كافية رقمية تمكّنه من فهم آليات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته التعليمية ليستعملها بوعي وفعالية.
مهارة كافية تربوية تتيح له تصميم تجارب تعلّم تفاعلية تراعي الفروق الفردية بين الطلاب، وتستثمر البيانات لتخصيص المحتوى دون المساس بالهوية الجماعية.
ومهارة أخلاقية تؤهّله لتوجيه المتعلّمين في قضايا الخصوصية، والتحيّز المعلوماتي، والهوية الرقمية، وهي التحديات الأكثر خطورة في البيئة الرقمية.
في ضوء ذلك، لن يكون المستقبل صراعًا بين المعلّم والخوارزمية، بل شراكة ذكية بين الإنسان والآلة.
فالمعلّم الواعي هو من يعرف حدود التقنية وحدود ذاته، ويجعل من أدوات الذكاء الاصطناعي رافعة لتوسيع الفضاء الإنساني للتعلّم، لا لتقليصه.
التعليم في جوهره علاقة قائمة على الثقة والتواصل والموقف القيمي، وهي عناصر لا يمكن لخوارزمية، مهما بلغت من التعقيد، أن تحاكيها حقًّا حتى الآن.
فالآلة تُجيب، لكنها لا تُصغي؛ تُصحّح، لكنها لا تُشجّع كالبشر؛ تُقوّم الأداء، لكنها لا تزرع الأمل بالمفهوم الإنساني المعاصر.
ولذلك، سيبقى المعلّم محور المدرسة الحديثة، لكن بمفهوم متجدّد: ليس كحارسٍ للمعرفة، بل كمصمّم لتجربة إنسانية تُمنح فيها المعرفة معناها الحقيقي.
فالمهنة التي نشأت لتربية الإنسان لن تُلغى في عصر الآلة، بل ستتعمّق وظيفتها التربوية، لأن الإنسان سيحتاج، أكثر من أي وقت مضى، إلى من يساعده على فهم ذاته وسط طوفان التقنية.
إن المدرسة الذكية لا تحتاج إلى معلّم خارق، بل إلى معلّم إنسان، يدرك أن التكنولوجيا ليست بديلًا عنه، بل امتدادًا لأدواته في أداء رسالته.
وهكذا، يصبح الذكاء الاصطناعي فرصةً لاختبار جوهر المهنة، لا تهديدًا لوجودها، فالتربية، مهما تغيّرت الوسائل، تظلّ في النهاية فنًّا بشريًا خالصًا لصناعة الوعي والوجدان في هذا الوقت، تتكيّف مع الوسائل والظروف المتاحة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة