لطالما تصور الإنسان وجود "قرين" يرافقه مدى حياته، يسجل أفعاله ويوازن بين الخير والشر.
فهذا المفهوم، المتجذر في الأديان وبعض الثقافات المختلفة، أصبح في عصرنا المعاصر يتجسد بطريقة جديدة من خلال رفيق رقمي يسمى الذكاء الاصطناعي، تمامًا كما كان القرين رمزًا للوعي والملاحظة الذاتية. فمما لا شك فيه أن الذكاء الاصطناعي شريك دائم في حياتنا، يرافقنا في التفكير والتخطيط واتخاذ القرارات وتحليل البيانات؛ حقًا، إنه معنا في العمل والمعرفة وشتى شؤون الحياة.
لقد ارتبط الذكاء الاصطناعي بمفهوم المنطق المرتبط بالتفكير السليم بين المعطيات والنتائج بصورة حسابية ومنطقية، ومن هذه الفلسفة إلى استخدام الآلة في حركة مولدة للطاقة والعمل والإنتاج ومسهلة للحياة، إلى الدخول في إيجاد الآلات الحاسبة ثم إلى آلات أخرى تقوم على المعطيات وتقود إلى نتائج تطورت الآلة حتى أضحى يطلق عليها مصطلح الذكاء الخاص بالبشر.
حقيقةً، يرجع استخدام هذا المصطلح "الذكاء الاصطناعي" إلى جون مكارثي (John McCarthy)، عالم رياضيات أمريكي وأبرز علماء الحاسوب، وهو الذي صاغ مصطلح Artificial Intelligence (الذكاء الاصطناعي) لأول مرة في مؤتمر دارتموث، الذي عقد في صيف عام 1956 في كلية دارتموث (Dartmouth College) بالولايات المتحدة الأمريكية. فعبر هذا المؤتمر تم جمع بعض العلماء لمناقشة إمكانية جعل الآلات "تفكر" مثل البشر، وكان المؤتمر عبارة عن ورشة عمل علمية مهدت الطريق للبحث المستقبلي في الذكاء الاصطناعي وشكلت الولادة الرسمية.
فالذكاء الاصطناعي بدأ كنظرية وفلسفة رياضية منطقية، ثم تحول إلى أدوات برمجية، ثم إلى ذكاء عملي وتوليدي يستخدم في حياتنا اليومية. ففي كل مرحلة مر بها كان يعتمد على التطور التقني، وتوفر البيانات، وزيادة قدرات الحوسبة.
على سبيل المثال، كانت أهم المراحل التي مر بها متمثلة في استخدامه في برنامج لحل مشاكل محددة في التشخيص الطبي، ثم تطور في تطبيقات التعرف على الأنماط، وتحليل البيانات، وألعاب الكمبيوتر، خاصة عندما تلاعب الكمبيوتر.
وتوسعت قدرة الذكاء الاصطناعي مع توفر حوسبة قوية وبيانات ضخمة عبر تحليل الصور والفيديو والتعرف على الصوت، وقد دمج الذكاء الاصطناعي AI مع الروبوتات والسيارات الذاتية القيادة، ووصلنا إلى الذكاء الاصطناعي التوليدي (Generative AI) لإنشاء نصوص وصور وفيديوهات، مع تطبيقات واسعة في التعليم، والطب، والأعمال، والابتكار الصناعي والمعرفي، والتحليل المالي والإحصائي ذو العلاقات بين البيانات والمعلومات، ناهيك عن دخول محددات للذكاء الاصطناعي مثل الأخلاق، والتحيزات، والخصوصية، والسلامة.
تجاوزت أهمية الذكاء الاصطناعي في حياتنا اليومية التسهيل والإنجاز، فهو يساعدنا على اتخاذ قرارات أسرع وأكثر دقة، ويوفر حلولًا وخططًا مبتكرة للمشكلات المعقدة، ويجعلنا نعيش واقعًا افتراضيًا حول العالم وحول أنفسنا، كما أنه يعزز التواصل بين مكونات العالم من أفراد ومجتمعات وشركات وصناعات وخدمات عبر التطبيقات الرقمية.
وفي انتشار الذكاء الاصطناعي، أضحى عنصرًا أساسيًا في العلاقات الدولية، حيث تستخدم الدول والحكومات هذه التكنولوجيا في الأمن السيبراني، وتحليل البيانات الاستخباراتية، وتطوير الصناعات المتقدمة كالعسكرية، وإدارة الأزمات والكوارث الطبيعية وحتى العالمية، مما يجعله أداة استراتيجية لا غنى عنها في الساحة الدولية.
وفي المجال الإنتاجي والخدمي، سيُقلّص الذكاء الاصطناعي الفجوة بين الدول في التصنيع والقدرة الإنتاجية الصناعية وحتى الزراعية، حيث ستحدث عمليات تسريع في التصنيع وجودة الإنتاج عبر تحسين كفاءة الآلات العاملة والتصميم، إلى جانب أهمية تحسين الخدمات الحكومية والتعليمية والصحية والخدمية.
حقيقةً، بفضل الذكاء الاصطناعي يمكن أن يتم تعويض نقص عدد ونوعية الكوادر البشرية في التعليم أو الصحة عبر الأنظمة الذكية والمساعدين الافتراضيين، مما يدعم التنمية البشرية بمجالاتها المتعددة. وليس من المبالغة القول إنه يمكن للشركات الناشئة في أي مكان بالعالم تطوير منتجاتها الصناعية والخدمية والزراعية عبر الحلول والخطط والأتمتة الصناعية القائمة على الذكاء الاصطناعي، وبذلك تحقق السلع والخدمات ذات الجودة دون الحاجة إلى بنية تحتية صناعية ضخمة، وسيدعمها في ذلك أطر العولمة قطعًا.
ويقع الكثير في مغالطة تقول إن الذكاء الاصطناعي سوف يوسع الفجوة بين الدول المتقدمة والنامية، مدللاً بأن هناك احتكارًا للتكنولوجيا والقدرة المالية، وتفوّقًا في قدرات الإنترنت والطاقة والكفاءات التقنية؛ يقوض ذلك حقيقة أن الذكاء الاصطناعي أمسى مشاعًا حول العالم.
وإلى أكسجين الحياة، الوظائف وفرص العمل، هناك من يحاذرنا على نقص الوظائف وتردّي الصحة بسبب الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، إذ يرى البعض أن هذا التطور السريع في عالم الآلة والبرمجيات قد يؤدي إلى تقليص فرص العمل البشرية، واستبدال الإنسان بالآلة في العديد من الميادين التي كانت تعتمد على الجهد البشري في السابق.
فالذكاء الاصطناعي بات قادرًا على أداء مهام معقدة بكفاءة ودقة، مما جعل الكثيرين يشعرون بالقلق من تقلص دور الإنسان في سوق العمل، وازدياد الفجوة بين من يمتلكون مهارات التعامل مع التكنولوجيا ومن لا يمتلكونها. كما أن الإفراط في استخدام الأجهزة والتقنيات الحديثة أدى إلى ظهور مشكلات صحية متعددة، مثل قلة الحركة، والإجهاد الذهني، والعزلة الاجتماعية، والأمراض النفسية، وانتشار الكآبة، فضلاً عن اضطرابات النوم الناتجة عن الانغماس المستمر على الشاشات والأجهزة الذكية.
كل ذلك صحيح لا جدال فيه، ومن هنا تتأكد الحاجة إلى سياسات متوازنة تضمن استفادة المجتمعات من فوائد التكنولوجيا في زيادة وتحسين الإنتاج والصحة والتعليم والتخطيط والوقاية، دون أن تكون على حساب صحة الإنسان النفسية والبدنية أو استقراره المهني والاجتماعي.
على أنفاسٍ أدبيةٍ متوجسة، نذهب إلى «جورج أورويل»، صاحب مصطلح الحرب الباردة في القرن المنصرم، والتي كانت تعني الصراع العقائدي بين الكتلة الغربية الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، والكتلة الشرقية الشيوعية والاشتراكية بقيادة الاتحاد السوفييتي.
علينا أن نسلّم بحقيقة أن العالم اليوم بات أقرب إلى تصور جورج أورويل في روايته 1984، عالمٍ تسيطر فيه السلطة على كل تفاصيل حياة الإنسان، فتتحكم في معلوماته وأفكاره وسلوكه وحتى تاريخه. ويطرح الذكاء الاصطناعي نفسه اليوم كانعكاسٍ معاصرٍ لتلك الصورة في رواية 1984؛ إذ إن قدرته على جمع البيانات الضخمة، وتحليل سلوك الأفراد، والتنبؤ بخياراتهم وسلوكهم، ومعرفته بما يفكرون، تجعل منه أداةً قد تُستخدم للمراقبة أو للتلاعب بالمعلومات، تمامًا كما كانت «وزارة الحقيقة» في الرواية تتحكم بالحقائق لصالح السلطة.
وبينما يتيح الذكاء الاصطناعي فرصًا هائلة للتقدّم والابتكار وتطور الصحة والإنتاج والصناعة والزراعة والخدمات المتعددة والمختلفة، فإنه يذكّرنا في الوقت نفسه بأهمية الخصوصية والأخلاق، وضمان فرص العمل واستدامة الحياة بطابعها الاجتماعي والإنساني، بما يحفظ شيئًا من الخصوصية والاستقلالية في عالمٍ رقميٍّ يزداد فيه الاعتماد على الآلات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة