لا أحد في الشرق الأوسط يبدو منتصرًا بعد عامين من الحرب، لكنّ الجميع يتصرّف كما لو أنه يستعد للجولة التالية.
فإسرائيل التي لم تنجح في القضاء على حماس تتصرّف كقوة في حالة انتظار دائم، وحماس التي نجت من الحرب بالكاد تتصرّف كأنها على وشك أن تتحول إلى دولة، وبين الطرفين تقف المنطقة أمام لحظة مراجعة شاملة: أيّ سلام يمكن أن يُبنى على بقايا حربٍ لم تنتهِ، وأيّ إعادة إعمار يمكن أن تبدأ فيما الركام ما زال ينتظر من يملك الشرعية لرفعه؟
تسعى حماس اليوم إلى نموذج طالبان، لا في الجغرافيا ولا في الأيديولوجيا، بل في "الشرعنة" السياسية التي تسمح لحركة مسلّحة بأن تتحول إلى كيانٍ سياسي مقبول أمرًا واقعًا. تحاول الحركة إعادة تقديم نفسها كقوة أمر واقع، على غرار ما فعلته "هيئة تحرير الشام" في إدلب أو حزب الإصلاح في اليمن، أن تبقى في الحكم ولو من دون اعتراف دولي، وأن تفاوض العالم بظلّ السلاح لا بعد نزعه. هذا المسعى ليس عشوائيًا، بل هو نتاج رؤية تقارن بين مسارات الجماعات المسلحة التي نجت من الحرب، وبين تلك التي فقدت السيطرة فانتهت رموزًا من الماضي. حماس تريد أن تكون “طالبان غزة”، أي أن تُمنح اعترافًا سياسيًا غير معلن مقابل استقرار أمني محدود يضمن للفاعلين الإقليميين وقف النزيف ويضمن لها البقاء.
لكنّ الفارق الجوهري أن الشرق الأوسط ليس أفغانستان. فالدول الوازنة في المنطقة، وعلى رأسها دولة الإمارات العربية المتحدة، لا ترى في حماس مشروعًا سياسيًا يمكن البناء عليه، بل عبئًا يعطّل كل إمكانية لإعمار غزة أو تحقيق تسوية مستدامة. الموقف الإماراتي واضح وثابت: لا إعمار تحت سلطة المليشيات، ولا دعم لقطاعٍ ما دام محكومًا بعقيدة الفصائل. فالإعمار بالنسبة إلى الإمارات ليس منحة مالية، بل مشروع استقرار، والاستقرار لا يُبنى فوق أنقاض التنظيمات الأيديولوجية. لذلك، فإن أي حديث عن مؤتمر مانحين أو عن عودة الاستثمارات إلى غزة يصطدم بشرطٍ أساسي أصبح محل إجماع عربي ودولي: نزع سلاح حماس وتجريدها من السلطة قبل أي خطوة في الإعمار.
هذا الموقف لا يُعبّر فقط عن واقعية سياسية خليجية، بل عن قراءة استراتيجية أعمق ترى أن حماس لم تعد حركة مقاومة بقدر ما تحوّلت إلى سلطة أمرٍ واقع تمنع الفلسطينيين من بناء دولة وتُبقي الاحتلال ذريعة دائمة لوجودها. فالحركة التي ترفع شعار المقاومة تحتفظ بسلاحها ليس لقتال إسرائيل فحسب، بل لضمان بقائها على رأس السلطة في غزة. وهكذا أصبحت المقاومة وسيلة للحكم أكثر مما هي وسيلة للتحرير، تمامًا كما هو حال حزب الله في لبنان والحوثي في شمال اليمن.
وفي المقابل، يعيش بنيامين نتنياهو في متاهةٍ لا تقلّ تعقيدًا عن مغارة حماس. فالرجل الذي وعد الإسرائيليين بـ“النصر الكبير” بعد حرب السابع من أكتوبر، يجد نفسه بعد عامين أمام واقعٍ لا يحمل نصرًا ولا نهاية. يقود حكومةً يمينيةً متطرفة تسير خلفه ظاهريًا، لكنها تدفعه سرًا إلى خيارات انتحارية. يحاول أن يقنع الداخل الإسرائيلي بأنّ الوقت يعمل لصالحه، وأنّ يوم النصر سيأتي حين يُعلن ضمّ الضفة الغربية كاملةً، لكنّ هذا “النصر” الموعود ليس سوى غطاء لتأجيل انهيار حكومته، تمامًا كما كان شعار “القضاء على حماس” غطاءً لإطالة أمد الحرب.
نتنياهو يعرف أنه لا يستطيع القضاء على حماس من دون أن يفقد توازنه الداخلي، فالحركة بالنسبة إليه باتت جزءًا من هندسة الخوف التي تبقيه في السلطة. وجود عدوّ دائم يبرّر له البقاء، ويتيح له أن يتحدث عن “أمن قومي” مهدّد بدل أن يواجه فشلًا سياسيًا محقّقًا. لقد حوّل نتنياهو الصراع إلى اقتصاد سياسي للبقاء، حيث كل أزمة تمدّ في عمره، وكل حرب تمنحه سببًا جديدًا لتأجيل السقوط.
وفي داخل المجتمع الإسرائيلي، هناك انقسام لم يُعرف منذ تأسيس الدولة. الانقسام بين اليمين واليمين الأكثر تشددًا لم يعد مجرد خلاف سياسي، بل أصبح حربًا ثقافية داخل إسرائيل نفسها. اليسار تلاشى، والوسط متردد، والدولة التي كانت تصدّر صورتها كقلعة ديمقراطية في محيطٍ مضطرب أصبحت أسيرة خطاب ديني متشدد يفرض منطقه على القرار. في هذه المتاهة التي صنعها نتنياهو، تذوب الفوارق بين الدين والسياسة، وبين الجيش والعقيدة، لتصبح إسرائيل دولة تستهلك قوتها الرمزية في حروبٍ لا تنتهي.
النتيجة أن الطرفين، نتنياهو وحماس، يعيشان في دائرة مغلقة من الوهم، كلٌّ منهما يحتاج الآخر ليبرّر وجوده. فنتنياهو يحتاج إلى بقاء حماس ليواصل ادعاءه بأنه يحمي إسرائيل من “الإرهاب الإسلامي”، وحماس تحتاج إلى نتنياهو لتبرّر استمرار مقاومتها واحتفاظها بالسلاح. كلاهما يقتات من خوف الآخر، وكلاهما يدّعي البطولة وهو غارق في الخوف.
تتحرك المنطقة نحو براغماتية جديدة تقودها دول تدرك أن الاستقرار الحقيقي لا يتحقق عبر السلاح بل عبر التنمية، وأن إعادة رسم التوازنات الإقليمية تتطلب إنهاء زمن المليشيات والعقائد العابرة للحدود. هذه هي الفلسفة التي جعلت الإمارات نموذجًا في الواقعية السياسية: لا حرب بلا أفق، ولا سلام بلا دولة، ولا إعمار بلا شرعية. من هذه الزاوية، يبدو المشروع الإبراهيمي الذي جمع دول المنطقة على منطق المصالح المشتركة أكثر واقعية من كل شعارات “التحرير الكامل” أو “النصر النهائي” التي أثبتت عجزها في الميدان.
العالم الذي كان يتعامل مع القضية الفلسطينية بوصفها مأساة إنسانية بات اليوم ينظر إليها كمعضلة سياسية تحتاج إلى إدارة لا إلى دماء جديدة. ولذلك، فإن مستقبل غزة لن يُقرَّر في الأنفاق ولا في متاهات السياسة الإسرائيلية، بل في التوافق الإقليمي والدولي الذي يضع نزع السلاح والحوكمة الرشيدة كمدخلٍ إلزامي لأي إعادة إعمار. لن يكون لمشاريع الإعمار معنى ما دامت حماس تحتفظ بسلطة السلاح، ولن يكون لأي تسوية معنى ما دام نتنياهو يواصل اللعب بورقة “يوم النصر” والضغط الدائم على زناد الضمّ.
الحقيقة أن الطرفين يعيشان في زمنٍ منتهي الصلاحية؛ حماس فقدت القدرة على الإقناع، ونتنياهو فقد القدرة على الإلهام. الأول عالق في مغارته، والثاني في متاهته، وكلاهما يظن أن العالم ما زال يدور حوله. غير أن الشرق الأوسط تغيّر، فالمعادلات الجديدة تُكتب في العواصم التي تفكر بالعقل لا بالغريزة، وتبني بالمصالح لا بالشعارات.
وعندما ينكشف الغبار عن هذه الحقبة، سيتذكر الجميع أن “النصر الكبير” لم يتحقق في ميدان المعارك، بل في قدرة العقول على تجاوز الأوهام. وحين تدرك إسرائيل أن أمنها لا يتحقق باحتلال الضفة، وتدرك حماس أن شرعيتها لا تأتي من البندقية، سيكون الشرق الأوسط قد بدأ أخيرًا رحلة الخروج من متاهاته ومغاراته معًا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة