من الشائع لدى جيلي ومن يليه أن العرب قد خسروا حرب 1948 بسبب الخيانات ولتعاون حكومات ملكية مع المستعمر.
مع أن التاريخ أثبت أن أداء وشجاعة وإخلاص العرب الذين شاركوا في هذه الحرب تفوق ما قدمته الحكومات العربية في جميع الحروب التي خاضها العرب في ما بعد في فلسطين. وفي هذا الموضوع، أشير إلى كتاب الدكتور وليد الخالدي – الأستاذ المقدسي المميز – الذي كان استاذا في هارفرد والجامعة الأميركية في بيروت: «خمسون عاما على حرب 1948». والذي نشره بداية على حلقات في جريدة الحياة ثم نشره كتابا من قبل دار النهار في بيروت. ولعل أهم ما في الكتاب أنه يبدد الفكرة الشائعة المغلوطة أن العرب كانوا على أوج الانتصار، لكنهم هزموا بسبب الخيانات. لكن الحقيقة هي أن الجيوش العربية برغم إمكاناتها المتواضعة، خاضت حربا غير متكافئة، حيث انه بالرغم من أن الجيوش العربية كانت من خمس دول هي: مصر والأردن والعراق وسوريا ولبنان، إلا أن أعداد وعتاد المقاتلين الصهاينة كان أكبر وأكثر قوة.
فوفقا للخالدي، فإن مجموع الجنود والضباط العرب كان 18 ألفا، بينما كان إجمالي عدد المقاتلين الصهاينة 31 ألفا. وكان للعرب من الدبابات 19، والمدرعات 242، والمدافع 136، بينما كان للصهاينة أكثر من 600 مدرعة، وأكثر من 700 مدفع. أما الفارق المهم، فكان في القدرات الفردية في إدارة القتال، فكثير من المقاتلين الصهاينة كانوا قد شاركوا في الحرب العالمية الثانية، بينما كانت التجربة تنقص المقاتلين العرب.
أما الغائب الأهم عن الوعي العربي فهو الهولوكوست أو المحرقة النازية لليهود. فالعرب يعرفون عن المؤتمر الصهيوني الأول الذي عقد في بازل بسويسرا عام 1897 بدعوة من صحافي ليبرالي يهودي غير متدين اسمه ثيودور هيرتزل، ويعرفون عن وعد بلفور 1917. لكنهم بشكل عام يتجاهلون المحرقة النازية لليهود. ولو أعطيت لوعد بلفور والجهود الصهيونية قبل الحرب العالمية الثانية %40 وزنا كسبب لتأسيس إسرائيل، فإني أعطي المحرقة حوالي %60.
ففكرة تأسيس وطن قومي لليهود وفقا للمؤتمر الصهيوني الأول، ومن ثم وعد بلفور، ما كانت ستؤدي إلى حتمية تاريخية تؤدي إلى نشأة إسرائيل. إسرائيل إلى حد كبير هي نتيجة للهولوكوست. لذا فعندما ينكر العرب الهولوكوست، كأنهم ينكرون السبب الحقيقي لنشأة إسرائيل. الهولوكوست هو الذي حول شعب مسالم يعمل بالتجارة إلى مقاتلين أشداء. وفي كثير من الأحوال حولهم إلى وحوش، فتجربتهم اللاإنسانية جعلت الكثير منهم فاقدين للإنسانية. وفي هذا المجال يرى اللبناني جلبيرت الأشقر صاحب كتاب «العرب والمحرقة النازية» أن الهولوكوست أعطى حجة قوية لاستعمار فلسطين بعد التنكيل بهم من قبل النازيين، ويرى الأشقر أن انكار الهولوكوست يسيء للقضية الفلسطينية. وأرى أنه من دون الهولوكوست، ما كان يمكن لإسرائيل أن تؤسس بالشكل الذي تأسست عليه. إسرائيل ليست حتمية تاريخية، وإنما كانت نتيجة لظروف سياسية بدأت باضطهاد اليهود في روسيا وأوروبا الشرقية في القرن التاسع عشر، وأكمل تأسيسها إرسال اليهود إلى المحرقة على يد النازيين.
الحقيقة التاريخية الأخرى الغائبة عن العرب كذلك هي أنه وان تأسست إسرائيل عام 1948، فان جذور التأسيس كانت أعمق من ذلك. فصحيح أن عدد اليهود لم يكن يتجاوز الـ %15 من إجمالي السكان في بداية القرن العشرين، وأن أول هجرة يهودية لفلسطين كانت في 1881، إلا أن الأثر الثقافي كان عميقا. فقد تأسست أربع جامعات يهودية قبل تأسيس إسرائيل نفسها. فقد تأسست الجامعة العبرية عام 1918، وتأسس معهد إسرائيل للتكنولوجيا عام 1910، وتأخر افتتاحه الى عام 1923 وحضره البرت اينشتين. وتأسست أكاديمية بزاليل للفنون والتصميم عام 1906 أما جامعة تل أبيب والتي تعتبر من أهم الجامعات، فقد تأسست رسميا بعد 1948، إلا أنها بدأت ككلية للقانون في الثلاثينيات من القرن الماضي. بينما تأسست أول جامعة عربية في بيرزيت عام 1972. فاليهود او الصهاينة هاجروا من بيئات ثقافية متقدمة على البيئة العربية في فلسطين. فالتفوق لا يحقق بالعدد، وإنما بنوعية العدد.
وكما ذكرت، فبالرغم من عدم إيماني بالحتميات التاريخية، لكني أرى بإمكانية أن تتحول إسرائيل إلى دولة للفلسطينيين واليهود. وأرى أن ذلك يعتمد كثيرا على سياسة الفلسطينيين العرب نحوها. فالفلسطينيون ومن خلال الانتفاضة الثانية التي بدأت في سبتمبر 2000 والتي كان وراءها الرئيس عرفات، وبعد أن أباحت قتل اليهود في المقاهي ومواقف الباصات، هي التي أدت إلى بناء الجدار العازل بين الضفة وفلسطين الداخل، وهي التي صنعت شخصيات متطرفة مثل نتانياهو وأفيغدور ليبرمان ونفتالي بنيت وجعلتهم قادة لإسرائيل. فالتطرف يصنع التطرف. لكن بنفس الوقت إسرائيل لا تخلو من شخصيات محبة للعرب، وتريد أن تعيش بسلام مع العرب مثل أميرة حاس (عميرة هاس)، وجدعون ليفي، وآري شبيط. كما أن الرأي العام اليهودي شهد تحولا كبيرا لمصلحة الفلسطينيين. كما علينا دائما أن نتذكر اليهود الأحرار المناهضين للصهاينة أمثال نورمان فنكلشتاين وإيلان بابي أو بابيه. الأول فقد والديه في الهولوكوست والثاني صاحب كتاب «عشر خرافات عن إسرائيل».
أعتقد أن الرأي العام العربي لا يعرف إسرائيل وتاريخها بالقدر الكافي، وإلا لما رأى أن مستقبل القضية الفلسطينية بتحرير كامل التراب الفلسطيني. وفي الاستفتاء الذي أجريته وصل الحد إلى أن أحد المغردين علق أن تحرير فلسطين بالكامل سيتم في عام 2027، مثلما توقع الشيخ أحمد ياسين.
لا أعلم متى تتشكل القناعة عند العرب بأن تحقيق نصر عسكري على إسرائيل أشبه بالمستحيل، ونحن غير مهيئين له. بل علينا أن نبدأ بالتفكير في الاستفادة من وجود إسرائيل في المنطقة وتحويلها الى وطن للعرب واليهود. فوجودها مع تحقيق سلام عادل للفلسطينيين يحولها إلى حاضنة للتقدم العلمي، الذي يمكن أن ينتشر إلى محيطها.
وأخيرا أود أن أذكر أن جميع ما خسرناه نحن العرب من شهداء في حروب الجيوش العربية مع اسرائيل لا يتعدى خمسين ألفا، بينما خسرنا في سوريا نصف مليون. وعدد اللاجئين الفلسطينيين الذين هجروا بعد حربي 1948 و1967 يقل عن 1.3 مليون.
نقلا عن القبس
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة