بولتون بلا أجنحة
إقالة جون بولتون سببت صدمة كبيرة في واشنطن ضمن الأوساط السياسية الأمريكية وتحديداً في أروقة الجمهوريين ومواقع صقور اليمين الأمريكي
ماذا تعني إقالة الرئيس دونالد ترامب لمستشار الأمن القومي الأمريكي جون بولتون أحد صقور اليمين الأقرب إلى نهج الرئيس، وإبعاده عن صناعة القرار في هذه الظروف الدقيقة بالذات؟
وهل تلك الإقالة المفاجئة ناجمة عن الخلاف الذي حدث خلال المحادثات مع فصائل طالبان بين بولتون ووزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، أم أن الأمر له جذور أكثر عمقاً وتأثيراً، ويتعلق بالدولة العميقة التي بدأت أياديها تمتد إلى وزارة الخارجية عن طريق الوزير الأقل تشدداً في موضوع المفاوضات بين الولايات المتحدة ودول مارقة راعية للإرهاب من طراز شمال كوريا وإيران، وفصائل متشددة من صنف طالبان أفغانستان؟
إقالة جون بولتون سببت صدمة كبيرة في واشنطن ضمن الأوساط السياسية الأمريكية وتحديداً في أروقة الجمهوريين ومواقع صقور اليمين الأمريكي الذي يعد بولتون من أهم وجوهه سياسياً وحزبياً.
وقد غرد السيناتور الجمهوري تيد كروز، اليوم، حال قدم بولتون استقالته بناء على طلب الرئيس ترامب، وكتب على حسابه الشخصي: "جون بولتون صديق كان قد كرّس حياته للدفاع عن أمننا القومي بما في ذلك توفير الاستشارات الحكيمة للإدارات الأمريكية المتعاقبة".
فماذا وراء التشنج الذي حدث بين بومبيو وبولتون، ما دفع الرئيس ترامب إلى التخلي عن جون بولتون وهو الاختيار الشخصي للرئيس ترامب، وحامل أعباء الأمن القومي الأمريكي، خصوصاً المتعلق بالملف الإيراني، ويجادل في كل موقع ومحفل بقوة وإصرار، مشدداً على التزام أمريكا بعدم العودة إلى الاتفاق النووي الذي انسحبت منه بأي حال من الأحوال، وعلى الاستمرار في حصار إيران اقتصادياً وسياسياً ودبلوماسياً إلى أن تذعن لشروط الولايات المتحدة التي وضعها مايك بومبيو نفسه!
في حقيقة الأمر هناك فارق عميق في النهج والتاريخ السياسي وتقادم الخبرة يفصل بين الرجلين بومبيو وبولتون؛ هذا الفارق الذي طفا فوق السطح مؤخراً وأدى إلى تخلي البيت الأبيض وسيد المكتب البيضاوي عن الأخير.
فمايك بومبيو رجل انتقل بسرعة غير معتادة من موقعه كنائب في الكونجرس إلى أعلى منصب في الاستخبارات الأمريكية حين عيّنه الرئيس ترامب مديراً لوكالة سي آي إيه، ثم بدفعة واحدة ترقّى إلى رأس الدبلوماسية وزيراً للخارجية.
وبومبيو في موقعه الدبلوماسي الأخير يُؤْمِن بضرورة استعمال أداة الدبلوماسية واستنفاد جميع فرصها قبل اتخاذ أي إجراء على طريقة بولتون الصلبة والصادمة. أما جون بولتون فهو رجل وصل إلى البيت الأبيض ليعمل إلى جانب ترامب، حاملاً معه ملف إيران ومكافحة غطرستها وسياساتها التوسعية ودعمها للمليشيات الطائفية العابرة للحدود، وكذا مهمته الأساسية في مكافحة الإرهاب والحركات المتطرفة بأي صورة جاء ذاك الإرهاب، وأينما وجد.
وبولتون بتاريخه وانتمائه السياسي إلى صقور الجمهوريين في أقصى اليمين الحزبي هو شخص عقائدي لا يرضى باعتماد الدبلوماسية الوسطية في مواقع تتعلق بالأمن القومي الأمريكي؛ وهو يعتبر، ويكرر في تصريحاته وباستمرار، أن الولايات المتحدة لم تذهب وتحارب أو تعلن الحصار إلا على من تعرض لها وهاجمها في عقر دارها من قوى الإرهاب العالمي وفي مقدمتها وعلى رأس قائمتها دولة الملالي في طهران.
أما عن الفصل السياسي الذي طفح به الكيل وأدى إلى انهيار العلاقة بين ترامب ومستشاره جون بولتون فكان عندما أقنع الأخير الرئيس ترامب بتعليق المفاوضات مع طالبان وإلغاء اجتماع معهم كان مقرراً في كامب ديفيد.
وبالفعل أمر الرئيس ترامب بإلغاء الاجتماع اقتناعاً من مستشاره بضرورة اتخاذ تلك الخطوة إثر مقتل جندي أمريكي في أفغانستان أثناء المفاوضات. إلا أن ما أثار حفيظة وغضب ترامب هو أن جون بولتون حاول أن يتقدّم عليه في هذا الموقف ويوحي في الإعلام وفي اجتماعاته الرسمية أنه كان هو صاحب القرار (لا الرئيس) في وقف المفاوضات مع طالبان.
وكان ترامب قد تراكمت لديه ملاحظات وتحفظات على جون بولتون حين كان يتابع التقارير التي تعدّها عنه قناة فوكس التلفزيونية الإخبارية، وتنتقد بشدة أداء بولتون وكونه يغرد خارج سرب الإدارة ويخالف باستمرار وعن عمد خيارات الرئيس فيما يتعلق بالأمن القومي في مواضيع عدة ابتداء بالمحادثات ولقاءات الرئيس مع كيم جونج أون زعيم كوريا الشمالية، مروراً بقرار ترامب الانسحاب من سوريا، وأخيراً وليس آخراً هو صيد بولتون في المياه العكرة في موضوع إمكانية جلوس الولايات المتحدة مع إيران في محادثات مباشرة؛ المحادثات التي كان يشجعها ويدفع بها بقوة غريم بولتون مايك بومبيو.
ليس هذا وحسب ما دفع الرئيس إلى الاستغناء عن خدمات بولتون، بل إن مذيع قناة فوكس الأكثر قبولاً بالنسبة لترامب بين أصحاب البرامج السياسية المهمة على القناة تاكر كارلسن، ولأشهر عديدة، كان يضغط على الرئيس من خلال برنامجه التلفزيوني لدفعه إلى إقالة جون بولتون باعتبار أنه من الخطأ الفادح الاحتفاظ بمستشار في فريق الرئيس لا يشاركه وجهات نظره فيما يتعلق بقضايا الأمن القومي الملحّة.
ولم يأت الضغط عبر وسائل الإعلام والتقارير الإخبارية وحسب، بل إن العديد من كبار مسؤولي إدارة ترامب كانوا يحذرون الرئيس من أن بولتون كواحد من الصقور الأشداء والبيروقراطي الشرس لم يكن فقط يناقض توجهات الرئيس السياسية، بل تجاوز ذلك نحو استخدام وسائل الإعلام ضد ترامب!
فصل المقال يكمن فيما وراء كواليس إقالة بولتون، فالخوف كل الخوف الآن أن يكون الرئيس ترامب قد تأثر بتوجهات وزير خارجيته وكذا وزير الخزانة ستيفن مونشن، اللذين يحاولان إقناعه بضرورة الجلوس مع إيران بعد أن نضجت نتائج العقوبات الاقتصادية على طهران وآن أُكُلها سياسياً، وهذا لا يتم إلا عبر مفاوضات مباشرة، الأمر الذي يعارضه بولتون بصورة حاسمة لا تنازل فيها.
فهل الدولة العميقة التي خلّف أذرعها باراك أوباما بعد رحيله عن سدة الحكم ستنجح بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، تحديداً إلى فيينا في تاريخ 2 نيسان/أبريل للعام 2015، وتقنع الرئيس ترامب بالعودة إلى الاتفاق النووي الذي وقعه آنذاك جون كيري ممثلاً للولايات المتحدة؟ أتساءل، ويتساءل المجتمع الأمريكي، وكذا المحيط العربي لإيران الذي هو الأكثر تضرراً من نوايا الجار الخبيث.