موسكو وواشنطن في الطريق إلى تفاهمات سورية أوسع تقلق أنقرة
من الواضح أن الرئيسين الأمريكي دونالد ترامب والروسي فلاديمير بوتين نجحا خلال قمة هلسنكي الأخيرة في التفاهم على الخطوط العريضة لملف التسوية في الأزمة السورية.
البعض يرى أن الاتفاق الحقيقي يتجاوز سوريا وسيطال خارطة تشكيل توازنات وتقاسمات إقليمية جديدة ودور القوى المؤثرة في التعامل مع هذه الملفات خلال الأشهر المقبلة.
مسائل خارطة سوريا السياسية والدستورية الجديدة وموضوع إعادة إعمار البلاد ووقف إطلاق النار وعودة اللاجئين، باتت أمام طاولة التفاوض الأمريكي الروسي حصراً، وحسبما بدا في قمة هلسنكي. فما الذي ستفعله أنقرة أمام مشهد دراماتيكي مفاجئ من هذا النوع؟
أنقرة لن تتمكن من عرقلة التفاهمات الأمريكية الروسية، وهي أصلا لا تريد ذلك لأن الخيار الوحيد والمتبقي هو الهروب إلى الأمام عبر الاتفاق مع طهران في سوريا لمواجهة تقدم الأمور على حسابها على ضوء التفاهمات الأمريكية الروسية.
من المعلوم أن العلاقات التركية – الأمريكية في حالة من التوتر الدائم بسبب تباعد الخيارات في التعامل مع أكثر من ملف ثنائي وإقليمي، من سيدخل مدينة منبج؟ وهل ستتمسك تركيا بقرار صفقة صواريخ إس – 400 الروسية؟، وهل ستتمكن من تحمل ارتدادات قرار واشنطن بتجميد تسليم طلبية مقاتلات إف – 35 انتقاما لعدم إعادة القس الأمريكي برانسون المسجون في تركيا بتهمة التجسس ودعم الإرهاب؟.
ومن المعلوم أيضا أن العلاقات التركية الروسية التي تحسنت في العامين الأخيرين باتت هي الأخرى ذات تأثير بمستجدات ساخنة بينها اللقاءات الروسية الإسرائيلية والروسية الإيرانية قبل قمة هلسنكي، واحتمالات وجود صفقة آخر لحظة على حساب تركيا في الشمال الشرقي والغربي من سوريا؛ بما يتعارض مع حساباتها وتفاهماتها مع واشنطن وموسكو.
دون إغفال حقيقة أن واشنطن متمسكة بتحالفها مع شريكها المحلي قوات سوريا الديمقراطية رغم الكثير من التفاهمات التي تجريها مع أنقرة في موضوع منبج، وهي تناقش مسألة منبج مع أنقرة لكنها وكما يبدو سترفض أي نقاش مشابه في منطقة شرق الفرات أو شرق سوريا، حيث تعتبر أن المسألة تتعلق بالتفاهمات الأمريكية الروسية مباشرة، فكيف سيكون الموقف التركي مثلا حيال تفاهمات أمريكية روسية بضرورة القضاء على جماعات "النصرة" في إدلب التي تتصلب في رفض حل نفسها والاندماج ببقية قوى المعارضة السورية المعتدلة؟.
بشكل آخر سبق لتركيا أن أعلنت أن مهاجمة الجيش السوري لإدلب من شأنه أن ينسف اتفاق أستانة بينها وبين كلٍّ من روسيا وإيران، فما الذي ستفعله إذا ما أعطت موسكو أو طهران الأوامر لقوات النظام السوري بالتحرك عسكريا ضد هذه المجموعات المتمركزة في المدينة؟، هل ستكتفي أنقرة بإنهاء تفاهمات أستانة وسوتشي؟، أم هي ستتحرك للتصدي ميدانيا لقوات بشار الأسد مضرمة النار بكل ما بنته من تحالفات مع موسكو وطهران وواشنطن؟.
ثم هناك حقيقة أخرى، وهي أن الاجتماعات المتلاحقة بين قيادات النظام السوري وقيادات قوات سوريا الديمقراطية دون أية شروط مسبقة مسألة تقلق أنقرة أيضا لأنها قد تكون تتقدم بتوصية أمريكية روسية للطرفين لحسم خلافاتهما في الشمال الشرقي وشرق سوريا.
أبدت قوات سوريا الديمقراطية "قسد" استعدادها للتوقف عن المطالبة بالنظام الفيدرالي والعودة إلى التركيز على النظام اللامركزي، الأمر الذي يخدم قضية استعادة سوريا وحدتها وسيادتها على كامل ترابها الوطني، هل ما نُشر في الإعلام التركي قبل أيام حول وجود مفاوضات تركية روسية بشأن تسليم مدينة حلب للأتراك لتولي ملف إعادة إعمارها، وتسهيل عودة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين إلى أراضيهم، ثم ربطه بمشروع تقسيم البلاد إلى 3 مناطق نفوذ هو عملية رد تحية تركية على التقارب الأمريكي الروسي والكردي السوري مع النظام؛ والغزل المتزايد بين موسكو وتل أبيب؟.
الواضح حتى الآن وعلى ضوء التطورات الميدانية والسياسية المتلاحقة بعد قمة هلسنكي أن موسكو تريد المساومة مع واشنطن على لعب الورقتين التركية والإيرانية لصالحها في المشهد السوري، وفرض رسم خريطة سوريا السياسية والدستورية والعرقية كما تريدها هي، والانخراط في مساومات إقليمية أوسع مع الإدارة الأمريكية حول إيران والعراق وتركيا والملف الكردي. وأن واشنطن تريد تضييق هامش النفوذ التركي والإيراني في سوريا ومساحة تحركهما، خصوصا إبعاد إيران والميليشيات التابعة لها عن الحدود الجنوبية وإخراجها من الأراضي السورية، وتضييق مساحة التحرك الإيراني الإقليمي. موسكو تساوم على ذلك من موقع قوة طالما أنها الممسك بجميع خيوط اللعبة في سوريا، لكن أنقرة هي التي ستجد نفسها في وضع صعب كلما تزايدت الضغوطات على إيران.
أقلام تركية تردد أنه إذا أرادت أمريكا وروسيا تطوير علاقاتهما في الساحة السورية فلابد من إدخال تركيا أيضاً في المعادلة نظراً لأهمية موقعها هناك؛ لكن أنقرة قلقة أن تكون قمة هلسنكي شهدت اتفاقات بشأن مناطق إدلب وعفرين وتل رفعت هذه المرة وهي مناطق النفوذ التركي.
ما يقلق الأتراك تحديدا هو احتمال توصل لقاء هلسنكي إلى اتفاقات تدفعها لتجد نفسها وسط حلبة المساومات الروسية الأمريكية.
سبق لتركيا وأعلنت أن مهاجمة الجيش السوري لإدلب سينسف اتفاق أستانة بينها وبين كلٍّ من روسيا وإيران، فما هو موقف أنقرة الآن أمام احتمال حدوث تفاهم روسي أمريكي في إدلب مثلا؟، وكيف ستتصرف إذا ما قررت دمشق الردّ على رفض «النصرة» أية تسوية معها بمهاجمة إدلب لتحرير المحافظة من جميع الفصائل المتمردة المتمترسة فيها؟.
موسكو وواشنطن في الطريق إلى تفاهمات سورية أوسع تقلق أنقرة، فالخطة تقوم على حرق الكثير من أوراق المعارضة والنظام في سوريا وإلزامهما بالجلوس أمام طاولة الحوار والإمساك بزمام الأمور في جنيف وأستانة وسوتشي لخدمة مشروعهما الجديد في المرحلة الانتقالية، وبالتالي تضييق هامش النفوذ التركي والإيراني في سوريا والانخراط في مساومات إقليمية أوسع حول إيران والعراق وتركيا والملفات الكردية. ألا يكفي كل ذلك ليقلق أنقرة؟.
أنقرة بدأت تشعر بأن خيارات روسيا باتت شبه محدودة في سوريا، وهي تحتاج للخروج من مأزقها إلى دعم أميركي وتريد الحصول عليه مهما كان الثمن، وهي قلقة أن تكون مصالحها الإقليمية في أكثر من مكان هي الثمن الذي تعرضه موسكو على واشنطن.
باختصار أكثر، الخطة الروسية الأمريكية تقوم على وضع كل الحلول والقرارات حول سوريا في سلة واحدة وأمام منصة موحدة تجمع جنيف وأستانة وسوتشي ومؤتمر الحوار الوطني معا ضمن تفاهم ثنائي على إعداد مشاريع جديدة حول شكل طاولات حلول الأزمة السورية سياسيا ودستوريا، أنقرة قلقة أن يكون التفاهم الأمريكي الروسي الجديد في سوريا مصيدة لها قبل أن يكون فخا لطهران .
فبينما كنا نرصد التحولات والاحتمالات برز خبر تسريع المفاوضات الروسية الإسرائيلية. وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ورئيس هيئة الأركان الروسية في إسرائيل لإجراء محادثات حول الشأن السوري وبطلب من الرئيس فلاديمير بوتين نفسه كما يقول رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو، وبذلك نكون قد وصلنا إلى النقطة الأكثر حساسية ردا على سؤال هل تستجيب تركيا لقرارات الولايات المتحدة الأمريكية الجديدة في فرض العقوبات على إيران اعتبارا من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل،أم أنها ستقاوم حتى النهاية لمعرفة حجم التفاهمات الأمريكية الروسية ومدى استعداد موسكو للوقوف إلى جانبها أم لا؟.
تشير البيانات المتوافرة إلى أنّ شركة " توبراش"، صاحبة أكبر مصفاة للنفط في تركيا خفّضت وارداتها من النفط من إيران، منذ شهر مايو/ أيار الماضي، وهو الشهر الذي شهد إعلان ترامب فرض العقوبات على إيران، بعد الانسحاب من الاتفاق النووي.
خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام ٢٠١٨، استوردت " توبراش " ما معدّله حوالي 187 ألف برميل من النفط يومياً من إيران، لكن أرقام شهري مايو ويونيو تظهر أن هذه الكمية انخفضت إلى حوالي 130 ألف برميل من النفط يومياً.
أنقرة لن تتمكن من عرقلة التفاهمات الأمريكية الروسية وهي أصلا لا تريد ذلك لأن الخيار الوحيد والمتبقي هو الهروب إلى الأمام عبر الاتفاق مع طهران في سوريا لمواجهة تقدم الأمور على حسابها على ضوء التفاهمات الأمريكية الروسية، فهل هي جاهزة لإضرام النار في سفن العودة عبر قرار خطير من هذا النوع؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة