في عصر المعلومة المُيسّرة والفضاء المفتوح، يتبادر إلى الذهن أن الحقائق التاريخية لا يمكن أن تُخطئ الوصول إلى العقول
في عصر المعلومة المُيسّرة والفضاء المفتوح، يتبادر إلى الذهن أن الحقائق التاريخية لا يمكن أن تُخطئ الوصول إلى العقول، على الأقل، تلك الحقائق الواضحة والقريبة وجدانياً ومكانياً وزمانياً.
لكن الواقع يخالف ما ورد من مقدمة، حيث إن الجزم بذلك يجانب الصواب، فيبقى من الناس أصناف تؤمن بجثث أفكار وأطلال دكتاتوريات وطغاة لتجعلها نموذجا ينحدرون معه بعيداً عن العقلانية والواقعية في عالم خاص بهم لا يحتمل النقاش.
وتتجلى ظاهرة التعلق بالنماذج السياسية التاريخية بشكل واضح في شخصَيْ هتلر وصدام، اللذين تجد لهما من التمجيد في وسائل التواصل الاجتماعي ما يحرّك سواكن الأسئلة حول أسباب انجراف المتعلقين بهما، والتعاطف مع أفعالهما التي لا يمكن أن تقبلها النفس السوية.
ويمكن أن ينسحب السؤال على جميع الشخصيات الأخرى من بائعي الوهم عربياً وأعجمياً، ممن ينساق خلفهم بعض الناس، إذ لا بد من البحث وراء هذا السؤال للوصول إلى الأسباب التي تدفع شخصاً ما للتعاطف مع "جلاد" مضطهد.
عواقب التعاطف والتمجيد مع شخصيات تناقض مفهوم الوطنية، وتبنى على أساس طائفي وحزبي وديني لاشك خطرة، وتتمثل في قبول أفعالهم جملة، وبالتالي قبول أفعال ضد الإنسان والوطن
وبتحليل انطباعي للحسابات "الممجدة" يُلاحَظ عدد من القواسم المشتركة الظاهرة بين المتعاطفين إذ إنّهم قلَّ ما يعرفون الشخصية بعمق، بل يعتمدون على مقاطع فيديو مُقتطَعة ومصحوبة بمؤثرات صوتية، وهم -أي المتعاطفون- يعشقون التعلق بشخصيات بعيدة جغرافياً عن أوطانهم.
الأصل في النفس البشرية كراهية الطغاة من البشر، وذلك ما جبُل عليه الإنسان فلِمَ هذا التعاطف إذاً لشخصيات أزهقت أرواح الملايين، وغزت دولة عربية شقيقة وأطلقت الصواريخ على أخرى، من دون مراعاة لمشاعر العائلات التي قضى أهلها في الحرب؟!.
لا يمكن النظر إلى القضية بمعزل عن الحالة الفكرية والسياسية الراهنة عربياً، إذ إن الاحتلال الإسرائيلي وما صاحبه من مجازر، وجّه بوصلة البعض نحو عدو ديانتهم –هتلر- باعتبار أن "عدو عدوي صديقي"، متناسين الروايات التي تشير إلى خطة هتلر نحو العرب بعد أن يفرغ من اليهود- إن صدقت، كذلك أدى انهيار الوضع الأمني والسياسي وتصاعد النفوذ الإيراني في العراق بعد صدام حسين، إلى البكاء على أيامه بزعم أنها أيام نصر.
هذا الانهيار أدى إلى محاولات اللجوء نفسياً إلى ملاذات توهم بأنها آمنة مستقاة من التاريخ للتعويض، بل والهروب من الواقع برتق كافة الفتوق النفسية، ومنها "الخوف"، بتلك الشخصية التي تتجاوز في المخيلة ما يمكن أن تكون عليه، بخلق نموذج بطل يحتمي به ويلوّح المتعلقون بعودة تلك الشخصيات يوماً ما على هيئة نُسَخ شبيهة تأتي لتنهي المأساة والمعاناة الواقعة.
لكن المسألة مُعقّدة جداً إذ إن الارتباط بهذه الشخصيات التي لا تعرف أفعالها معنى الإنسانية رغم تهديدها الأوطان والمواطنين نقيض لمقتضيات المواطنة، واحترام أفعال هذه الشخصيات رغم القتل والتنكيل طعنٌ للإنسانية، تفوح منه رائحة كراهية، إذ إن التعلق بالشخصيتين مبني، وإن كان بشكل جزئي، على عداوتها للدين في الحالة الأولى وللمذهب في الحالة الثانية.
عواقب التعاطف والتمجيد مع شخصيات تناقض مفهوم الوطنية وتبنى على أساس طائفي وحزبي وديني لاشك خطرة، وتتمثل في قبول أفعالهم جملة، وبالتالي قبول أفعال ضد الإنسان والوطن.
تمجيد الشخصية بضاعة رائجة في المنطقة العربية خصوصاً، وهو مبدأ يناقض الوطنية، ولا يزال لدينا الكثير من اللاعبين الإقليميين الذين يسعون للاستفادة من صناعة مثل هذه الشخصيات.
ومن هنا .. لا بد أن يُحصَّن جيل الشباب ويُمد بالمفاهيم الوطنية الصحيحة، مفاهيم الوعي والمناعة الفكرية، التي تعزز قيم الولاء والانتماء في نفوس النشء لأوطانهم ونماذجهم الوطنية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة