تبقى مدينة أو "دار السلام" التي بناها أبوجعفر المنصور بعبقرية هندسية دائرية حيّرت المهندسين، تتضمن رمزية في عظمتها وإشعاعها الثقافي.
يبدو أن التفكير الطائفي لا يتحمل اسم أبوجعفر المنصور ولا هارون الرشيد ولا المأمون، لا لشيء إلا لأنهم أرادوا أن يؤسسوا حضارة يفتخر بها العرب، وهؤلاء المتعصبون يخرجون علينا بين آونة وأخرى ليطمسوا معالم حضارة عربية إسلامية لها مكانتها وتأثيرها.
هذه هي المرة الثانية التي يثير فيها تمثال المنصور جدلا واسعا، سواء بين السياسيين أو في أوساط وسائل التواصل الاجتماعي، ففي عام 2005 نسف مسلحون تمثال المنصور بعد وضع عبوات ناسفة تحته، قبل أن يعاد ترميمه من جديد من قبل بلدية بغداد، شارع الرشيد الذي يُعتبر بحق أهم شريان لعاصمة الرشيد جابه الإهمال منذ سنوات طويلة، لأنه يحمل اسم هارون الرشيد.
تظهر هذه الدعوات إلى السطح من أجل التغطية على الفساد وانعدام الخدمات وفوضى اللا دولة.
بغداد التي لها تاريخها ورموزها ومراقد عظمائها لا يمكن أن تكون وعاء للفكر الطائفي، لذلك نلاحظ دعاة هذا الفكر لا يهتمون للبناء، ولا عجب أن تبدأ عمليات تخريب هذه المدنية الزاهية بدءا من نهب متحفها إلى حرق المكتبة المركزية وسرقة الآثار وتهريبها إلى خارج حدود العراق، لأنهم لا يدركون ما معنى المدينة ولا رمزيتها، وكل حزب من الأحزاب الدينية يسعى إلى نهب أكبر ما يمكن نهبه حتى لا تذهب تلك الأموال لإعمار البلد.
لا يتمكن المرض الطائفي من رؤية مدينة بغداد تزدهر، فكلما زاد إشعاعها ظهر هؤلاء على حقيقتهم، ولو قرأوا التاريخ جيدا لاكتشفوا أن الدولة العباسية لم تكن ذات منحى ديني طاغٍ ولم يتعامل أبوجعفر المنصور أو هارون الرشيد أو المأمون وغيرهم بروح طائفية أبدًا، لأن بغداد كانت الفسيفساء التي تعيش فيها جميع الأعراق والأجناس بلا تفريق.
ما عاشته بغداد أيام المنصور والرشيد والمأمون أسهم في حضارة العالم، لأن ما قدمته تجاوز الحدود والآفاق من ريادة في الفلسفة والتعليم والترجمة.
الخطأ الجسيم الذي يسعى الطائفيون الآن إلى تكريسه بين الناس هو وضع الأئمة المكرسين دينيا بشكل أو بآخر دون الاستناد إلى الحقائق في مقابل الخلفاء العباسيين الذين عملوا على تأسيس دولة عربية حضارية بكل معنى الكلمة، كان لها تأثيرها على تبلور الوعي الإنساني الثقافي عبر قرون.
إنها مقارنة لا تصمد أمام حقائق التاريخ.
لعل المصادر والمراجع التاريخية تخبرنا أكثر وليست الأهواء الطائفية التي لا أساس لها من الصحة.
بغداد أكبر من أن يستطيع هؤلاء تشويه تاريخها ومعالمها الراسخة، أصوات تخرج من هنا أو من هناك، من قبة البرلمان أو من الأزقة المظلمة تطالب بالانتقام الذي أصبح ملاذها لأنها عاجزة عن البناء، وبدلاً من إطلاق الشباب في العلوم والثقافة والجامعات والعلوم والاكتشافات فهي تدعوهم إلى الانخراط في عالم الخرافة والمليشيات.
بغداد الحضارية بكل أمجادها تخيف من يدينون بالفكر الطائفي، لذلك نراهم يخرجون علينا في كل مرة في محاولة تغيير اسم هذا الشارع أو إزالة هذا التمثال كما في شارع الرشيد أو تمثال أبوجعفر المنصور، مؤسس بغداد وباني نهضتها الحضارية، هواجس مريضة تشعلها الجماعات المتطرفة هنا وهناك بحجج واهية لا تستند إلى التاريخ.
مما لا شك فيه أن هذه الدعوات ترافقت مع اعتقال أحد قادة الحشد الشعبي قاسم مصلح، وتبرئته بطريقة مسرحية، وهذه المطالبة نوع من إلهاء الرأي العام لا أكثر من خلال مسرحية هزلية سمجة، القاتل يخرج ببراءة وآلاف السجناء مغيبون في السجون السرية.. ما الحكاية وراء ذلك؟ أبوجعفر المنصور أحد رموز القادة العرب والإسلام، ما الذي يدعو إلى تشويه تاريخه؟ هل دخل تاريخنا في فك الأغراض الانتخابية؟
أصبحت روايات التاريخ والرموز الإسلامية المؤثرة مصدر تزوير وتشويه للحقائق برؤية طائفية لا أساس لها من الصحة.
والسؤال المطروح هنا: لماذا تظهر كل هذه الكراهية لرموز العرب والمسلمين في الوقت الحاضر؟ وهم يمتلكون تاريخا ناصعا وعظيما أمثال: عمر بن الخطاب، أبوجعفر المنصور، خالد بن الوليد، المثنى بن حارثة الشيباني، هشام بن عتبة، هلال بن علقمة التميمي، القعقاع بن عمرو، النعمان بن مقرن، سعد بن أبي وقاص، صلاح الدين الأيوبي وغيرهم.
لماذا يُوضعون في دائرة الكذب والدجل والبدع والخرافات والضغينة والحقد والكراهية من قبل مَنْ يدعون بأنهم عرب ومسلمون؟
ثم إن اختزال تاريخ بغداد بأبي جعفر المنصور هو إجحاف كبير، لأن تاريخ بغداد موجود بمسلات وشرائع حمورابي، وفي اللغة البابلية والآشورية، لذا لا يجوز اختزال تاريخها الذي تراكم وازدهر عبر العصور، في الوقت الذي تعاني منه بغداد من تدهور كبير في أبنيتها ومعالمها، لذلك بدلاً من التفكير بإزالة هذا التمثال أو ذاك لأسباب طائفية يجب التفكير بإعمارها وإنقاذها من الإهمال، فهي تفتقر إلى المجاري، حيث تفيض أوقات سقوط الأمطار وتتحول إلى مستنقعات، ولا تزال مشكلة الكهرباء قائمة منذ عام 2003.
على أي حال، إنها دعوات بعض الغوغاء، ولم تتلق الحكومة أي طلب من جهة رسمية لإزالة التمثال من مكانه في منطقة المنصور، حسب وزارة الثقافة العراقية، هذه الدعوات وغيرها تصب في خانة الطائفية التي أسهمت بتدهور الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية والاجتماعية في العراق ولم تقتصر على إزالة تمثال أبوجعفر المنصور.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة