الوجود الأمريكي في سوريا.. بين ضرورة البقاء وحتمية الانسحاب
بين البقاء والانسحاب تتأرجح أسباب الوجود الأمريكي في سوريا، وفيما اعتبر مراقبون أسباب الوجود "واهية" أكد آخرون أنها "لا غنى عنها".
مجلة "ناشيونال إنترست" الأمريكية، اعتبرت في تحليل، حجج بقاء واشنطن، من القضاء على بقايا داعش إلى احتواء ودحر النفوذ الإيراني، وحماية إسرائيل أيضًا، قد تبدو شرعية، لكن السبل التي تنتهجها واشنطن في تحقيقها تعد إشكالية بطبيعتها وستخلق المزيد من المشكلات، لا لواشنطن وفقط، بل للمنطقة أيضًا.
- تونس تضبط بوصلتها بعيدا عن الإخوان.. خطوة تعيد تصحيح الأوضاع مع سوريا
- سوريا.. ساحة مواجهة خلفية تنذر بـ"صدام مباشر" بين إيران وإسرائيل
القضاء على داعش
ويشكل تنظيم داعش تهديدًا مباشرًا للدول والجهات الإقليمية الفاعلة أكثر بكثير مما يشكله لواشنطن، مما يضعف الحجة القائلة بأن الولايات المتحدة موجودة في سوريا لمواجهة داعش.
فكل دول المنطقة تعتبر داعش تهديدًا وجوديًا ولها مصلحة في القضاء على التنظيم، وإذا كان هناك ثمة ما ينبغي على واشنطن القيام به فهو التعاون مع تركيا ومع وكلائها.
ويمكن لمثل هذه الشراكة أن تحافظ على إبراز القوة الأمريكية دون المخاطرة بمواجهة مباشرة مع الخصوم الإقليميين مثل إيران واحتمال بدء "حرب أبدية" أخرى من شأنها تعثر أمريكا في الشرق الأوسط.
لكن سلسلة الأخطاء التي ارتكبتها واشنطن في 2014-2015 لم تكلفها تداعي تحالفها مع تركيا وفقط، بل أدت أيضًا إلى وجود أمريكا غير المبرر في سوريا. ففي ذروة تهديد داعش، فشلت إدارة أوباما في تبني خطة واضحة لهزيمتها.
وبدأت الوكالات الأمريكية المرتبكة في دعم مجموعات معارضة مختلفة لكل منها أجندات مختلفة. ومنها وكالة المخابرات المركزية التي ساهمت في تدريب وتجهيز المعارضة السنية الموالية لتركيا أبرزها "الجيش السوري الحر". وفي المقابل، دعم البنتاغون وحدات حماية الشعب الكردي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، العدو اللدود لتركيا، والذي كان هدفه في الأساس محاربة داعش، وفي النهاية الحصول على الحكم الذاتي، وحتى الاستقلال، داخل سوريا.
بحلول عام 2015، شابت خطة واشنطن في سوريا الفوضى بحيث انقلب الجيش السوري الحر ووحدات حماية الشعب ضد بعضهما البعض، في الوقت الذي كانا يقاتلان فيه داعش كل على حدة.
وخلال العام نفسه، قررت واشنطن التخلي عن الجيش السوري الحر لصالح وحدات حماية الشعب، والتخلي عن فكرة الإطاحة بالرئيس الأسد، وهو القرار الذي تزامن مع تقارب أوباما مع إيران.
هل وحدات حماية الشعب شريك أم عبء؟
أثار دعم البنتاغون القوي لوحدات حماية الشعب قضية مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة.
في سوريا، يعتمد البنتاغون بشكل كبير على وحدات حماية الشعب الكردية، وهي جماعة كردية مسلحة، قال عنها وزير الدفاع السابق آش كارتر: "لها علاقات قوية مع حزب العمال الكردستاني ... وهي منظمة إرهابية في نظر الحكومتين الأمريكية والتركية".
وأضاف: "تنبع عدم قدرة وحدات حماية الشعب الكردية على مواجهة النفوذ الإيراني لسببين: أولاً: تربط وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني علاقات عضوية مع إيران بسبب توافق أهدافهما الإقليمية. والثاني، أن واشنطن ترتكب في سوريا نفس الخطأ الذي ارتكبته في أفغانستان – ألا وهو محاولة بناء الدولة".
علاقات وحدات حماية الشعب الكردية بإيران
إيران، التي اتبعت تاريخيًا سياسات معاكسة لتركيا، وفرت لحزب العمال الكردستاني ملاذًا آمنًا ليس فقط في إيران ولكن في العراق أيضًا. ورفضت طهران طلب أنقرة القيام بعملية عبر الحدود في جبال قنديل الإيرانية، حيث يعتقد أن قيادات حزب العمال الكردستاني تقطن هناك.
وبالمثل، تعاون حزب العمال الكردستاني وطهران ضد خصمهما المشترك، الزعيم الكردي مسعود بارزاني وحزبه الديمقراطي الكردستاني، أقوى فصيل في كردستان العراق. لذا، نظرًا لأهدافهم الاستراتيجية طويلة المدى، يحاول كبار قادة حزب العمال الكردستاني، الذين يسيطرون أيضًا على وحدات حماية الشعب، توخي الحذر الشديد بعدم إثارة طهران. وبالتالي، لا يسمح قادة حزب العمال الكردستاني للولايات المتحدة باستخدام فرعهم السوري، وحدات حماية الشعب، كجنود مشاة ضد عملاء إيران.
وقد اعترف بسام إسحاق، ممثل مجلس سوريا الديمقراطية في واشنطن آنذاك، وهو منظمة سياسية جامعة تنتمي إليها وحدات حماية الشعب وتمثل قوات سوريا الديمقراطية، أن حربًا شاملة مع إيران ستلحق الفوضى بها.
علاوة على ذلك، قال نيكولاس هيراس، زميل مركز الأمن الأمريكي الجديد الذي تحدث إلى أعضاء قوات سوريا الديمقراطية في سوريا، "هناك قلق عميق داخل قوات سوريا الديمقراطية بشأن المدى الذي تتطلع فيه الولايات المتحدة إلى استخدام قوات سوريا الديمقراطية بشأنه في مواجهة إيران في سوريا."
جهود واشنطن غير المجدية في بناء الدولة السورية
ومن وجهة نظر اجتماعية وسياسية واقتصادية، فإن مشروع الحكم الذاتي لوحدات حماية الشعب في سوريا غير مستدام. وينفق البنتاغون ملايين الدولارات لتدريب وتجهيز وحدات حماية الشعب وتسهيل حكمها الذاتي في شمال شرق سوريا. لكن وحدات حماية الشعب الكردية ذات الغالبية اليسارية غريبة عن المنطقة، التي يغلب عليها العرب السنة مع بعض التركمان.
ومن المعروف أن وحدات حماية الشعب قد انخرطت في نزع التعريب بعد استيلائها على أراضٍ من داعش، مما أدى إلى مزيد من الاستياء، وتسبب في مزيد من الاشتباكات الطائفية.
وقالت لمى فقيه، كبير مستشاري الأزمات بمنظمة العفو الدولية: "من خلال التدمير المتعمد لمنازل المدنيين، وفي بعض الحالات تجريف وإحراق قرى بأكملها، وتشريد سكانها دون أسباب عسكرية مبررة، فإن الإدارة الذاتية تسيء استخدام سلطتها وتنتهك القانون الإنساني الدولي، في هجمات ترقى إلى جرائم الحرب".
علاوة على ذلك، فإن "الجناح السياسي لوحدات حماية الشعب، المعروف باسم حزب الاتحاد الديمقراطي السوري، يقوم بملاحقة الأكراد الذين لا يشاركونهم نظرتهم العالمية للماويين الجدد".
هذه الوسائل تستدعي توضيحا لأسباب إصرار واشنطن على الاستثمار في مسعى لا طائل من ورائه لدعم الأكراد في مسعاهم للحكم الذاتي بسوريا، في الوقت الذي تمتلك فيه حكومة إقليم كردستان في شمال العراق من الموارد، بدءا من الحكومة إلى البنك المركزي. ومن المفارقات أن واشنطن رفضت في عام 2017 قيام دولة كردية في شمال العراق بعدم الاعتراف باستفتاء استقلال المنطقة. وإذا كان الهدف هو مواجهة داعش والنفوذ الإيراني عبر الوكلاء، فلماذا لا تستثمر واشنطن في حكومة أربيل، التي تشعر بالقلق الشديد من النفوذ الإيراني؟ بالإضافة إلى ذلك، قاتلت قوات البشمركة الكردية بنجاح ضد داعش.
وما زاد الأوضاع سوءا، هو أن الولايات المتحدة، من خلال دعمها غير المشروط لوحدات حماية الشعب، عززت بشكل غير مباشر الوجود الإقليمي لحزب العمال الكردستاني، مما يزيد من تعقيد السياسة داخل الأكراد. فلطالما اعتبرت حكومة إقليم كردستان في أربيل حزب العمال الكردستاني تهديدًا وجوديًا. ومع تصاعد الخلافات بدأ حزب العمال الكردستاني بنصب الكمائن وقتل عناصر من قوات البيشمركة الكردية عام 2021.
ما الحل؟
يرى روبرت بابي، عالم السياسية الشهير في جامعة شيكاغو أن الاحتلال العسكري وليس المعتقدات الدينية هو ما يخلق التطرف والانتحاريين. وقد أقر رئيس الوزراء البريطاني السابق توني بلير بأن حرب العراق "ساعدت في ظهور داعش". وليس من المستغرب أننا لم نعد نسمع عن تلك القنابل المزروعة على جوانب الطرق أو التفجيرات الانتحارية بعد انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان.
وعند دراسة عواقب تصرفات الولايات المتحدة في الثلاثين عامًا الماضية، يمكن للمرء أن يتساءل: لماذا أصبحت إيران والصين وروسيا أكثر نفوذاً في الشرق الأوسط الآن فيما تفقد الولايات المتحدة نفوذها على الرغم من إنفاقها أكثر من 8 تريليونات دولار وفقدان أكثر من 5000 جندي.
ومع احتدام الحرب الأوكرانية وتزايد الحديث عن حرب مع الصين، فإن آخر ما تريده أمريكا هو التورط في مستنقع الشرق الأوسط من خلال شن حرب أبدية أخرى مع إيران.
وسيتعين على الولايات المتحدة مراجعة استراتيجيتها في الشرق الأوسط. فالحفاظ على وجود صغير باسم حماية وحدات حماية الشعب و"مواجهة إيران" سيأتي بنتائج عكسية.
وقد كان مجلس الشيوخ محقا في قراره إلغاء تفويض حرب العراق. ولذا يجب على صانعي السياسة الأمريكيين أن يفعلوا الشيء نفسه بالنسبة لسوريا. وبدلاً من تنفير الولايات المتحدة لتركيا، حليف الناتو وقوة إقليمية رئيسية، ودعمها غير المشروط لعدوها اللدود حزب العمال الكردستاني / وحدات حماية الشعب.
كما ينبغي على واشنطن الاستفادة من النفوذ العسكري والسياسي والاجتماعي المتزايد لأنقرة ليس في الشرق الأوسط فقط، بل في الشرق الأوسط القوقاز والبحر الأسود.
aXA6IDE4LjE4OC4xMTkuNjcg جزيرة ام اند امز