التحرش والتمييز و«بن لادن».. قصص نساء في الاستخبارات الأمريكية
تشتهر عمليات الاستخبارات بالصعوبة والخطورة في آن واحد، وتتطلب قدرا كبيرا من الملكات الشخصية والقوة، حتى يظنها البعض حكرا على الرجال.
لكن النساء اللاتي خدمن في سلك وكالة الاستخبارات الأمريكية "سي آي إيه"، أثبتن أن للجنس الناعم دوره في هذه اللعبة الخطرة، رغم ما مررن به من ظروف صعبة، وتمييز وفقا للجنس، وحتى نسيان أفضالهن، والتحرش العلني، إلى تجاهل معلوماتهن الحساسة في 11 سبتمبر/أيلول 2001.
ويقص كتاب الصحفية ليزا موندي، الذي يحمل عنوان "الأخوات"، مساهمات الجاسوسات في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والصعوبات التي واجهنها.
وخلال الحرب العالمية الثانية، توافد الآلاف من النساء على فرص العمل التي أتاحتها الحرب في مكتب الخدمات الاستراتيجية (OSS)، سلف وكالة المخابرات المركزية، في حين تم تجنيد الرجال للقتال في الحرب.
والملتحقات بـ"OSS" كن من بين النساء الأوائل في تاريخ الولايات المتحدة اللواتي جُندن رسميًا في العمل الاستخباراتي.
وكما تروي موندي، طُلب من المجندات الأوائل أن يقدمن تقاريرهن إلى مبنى متواضع في حي فوجي بوتوم بواشنطن.
وكانت العديد منهن جُندن في "OSS" في الأربعينيات من القرن الماضي على درجة عالية من التعليم، ومتطورات، ومتعددات اللغات.
وبمجرد دخولهن الوكالة، انتقل عدد قليل منهن إلى عمليات الاستخبارات الميدانية، وأظهرن الحيوية والشجاعة والذكاء في كل منعطف عندما أسسن حلقات تجسس فعالة، وحصلن على معلومات استخباراتية من النازيين وغيرهم من مسؤولي المحور، ونقلن معلومات استخباراتية مهمة إلى واشنطن.
وبعد الحرب، نسيت واشنطن بسرعة الدور الحيوي للمرأة في المجهود الحربي، وتم إحالة النساء مرة أخرى إلى الوظائف الداعمة.
وفي عام 1947، أنشأ الرئيس الأمريكي هاري إس ترومان وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، لكن الوكالة وظفت الرجال البيض الحاصلين على درجات جامعية في المقام الأول، لمدة عقدين آخرين.
ولم يتم تجنيد نساء يتمتعن بنفس القدر من الذكاء والأعصاب، للقيام بأعمال سرية حتى السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
لذلك، يكتسب كتاب موندي زخمًا، في حين تتعمق صفحاته في العصر الذي تم فيه قبول النساء في قلب المهام السرية لوكالة الاستخبارات المركزية، وتابع عددا قليلا منهن عن كثب، بما في ذلك ليزا مانفول.
وكانت مانفول طالبة متفوقة في جامعة براون، واختيرت في عام 1968، للانضمام إلى برنامج التدريب المهني التابع لوكالة الاستخبارات المركزية براتب أقل من المجندين الذكور.
وأصبحت مانفول في النهاية عميلة سرية ناجحة على الرغم من محاولة كبار المسؤولين إبقاءها في وظائف مكتبية لسنوات.
وسلط الكتاب الضوء أيضًا على أسطورة الوكالة إلويز بيج، التي بدأت كسكرتيرة لمؤسس "OSS"، وأصبحت أول رئيسة لمحطة وكالة الاستخبارات المركزية في عام 1978.
وعلى الرغم من عدم السماح لهن بالحصول على الدورات التشغيلية الكاملة في "المزرعة"، وهي منشأة تدريب تابعة لوكالة الاستخبارات المركزية في فيرجينيا، في السبعينيات، فإن هؤلاء النساء أثبتن قيمتهن.
ووفقا للكتاب، نجحت العميلات في أعمال متنوعة مثل التفاوض مع الإرهابيين الذين اختطفوا طائرة في مالطا والتعامل ببراعة مع "الدخول" الاستخباراتي، أي عندما يظهر عميل أجنبي محتمل بشكل غير متوقع في منزل ضابط أو سفارة مع وعود بتقديم معلومات استخباراتية مقابل الحصول على معلومات.
بقلم جاسوسة
وفي مقالة لضابطة العمليات السرية السابقة في وكالة الاستخبارات المركزية، فاليري بليم، تم نشرها في مجلة "فورين بوليسي"، قالت إن كتاب موندي أعاد لها ذكريات غير مريحة لم تتعامل معها منذ أن كانت جاسوسة.
وتابعت أن كبار المسؤولين في البيت الأبيض، في عام 2003، كشفوا هويتها كعميل سري لوكالة الاستخبارات المركزية.
وأضافت أن السبب كان مقالة افتتاحية لزوجها آنذاك، السفير الأمريكي جو ويلسون، ذكر فيها أن إدارة جورج دبليو بوش كذبت بشأن التهديد الذي يشكله العراق قبل قرارها بغزو البلاد.
وأوضحت أنها قضت الكثير من الوقت بعد ذلك لمعالجة صدمة تلك التجربة، وتعرّضت أصولها للخطر، وانتهت مسيرتها السرية، وطال الإزعاج عائلتها.
ولفتت بليم إلى أنها كانت "محظوظة" لنشأتها مع والدين لم يمليا أبدا عليها شروطا وفقا لجنسها كأنثى، وحرصا على إخبارها بأنها تسطيع "فعل أي شيء تريده، إذا قررت ذلك".
وعندما أصبحت شابة، انضمت إلى وكالة الاستخبارات المركزية، وفجأة، أوضحت لها المعطيات أن العالم الحقيقي يعمل وفق مجموعة مختلفة من المبادئ.
واستطردت: "وكالة الاستخبارات المركزية التي انضممت إليها في ذروة الحرب الباردة كانت عالماً خاصاً بالرجل إلى حد كبير".
وفي هذه الفترة، كانت الوكالة قد بدأت فقط في تجنيد النساء في العمليات الاستخباراتية، بدلاً من مناصب السكرتارية وأدوار الدعم الأخرى، لكن لا تزال شبكة من الضباط الذكور هي صاحبة القرار.
وخلال تدريبها الصارم لتصبح ضابطة عمليات ميدانية، وجدت بليم كبار الموظفات في الوكالة -ولم يكن أي منهن في أعلى الرتب- يملن إلى أن يكن غير متزوجات، وليس لديهن أطفال، ويشعرن بالمرارة في بعض الأحيان، وقاسيات "مثل المسامير".
وقالت بليم: "كنت أعلم أيضًا أنني لا أريد أن أصبح مثلهن.. ألا أستطيع أن أكون ضابطة ناجحة ولديّ عائلة؟".
ومضت قائلة "لم يكن لمصطلحي التحرش الجنسي والتمييز بين الجنسين، ناهيك عن التحيز اللاواعي، أي معنى بالنسبة لمجموعتها الصغيرة من ضابطات العمليات، فقط كان عليهن ببساطة أن يقبلن كراهية النساء العرضية التي كان ينشرها ذكور الوكالة".
وذكرت أن الاختلاف بين النساء والذكور كان في بعض الأحيان لأسباب واضحة، على سبيل المثال؛ اعتذرت إحدى صديقاتها خلال مهمتها الأولى في أفريقيا، قائلة إنها يجب أن تعود إلى المنزل، وتتزوج، وتنجب طفلاً.
وأكملت: "كان الأمر في حالات أخرى ضمنيًا، إذ ذهبت الترقيات إلى الشباب الذكور مقارنة بالزميلات اللاتي حققن نفس القدر من النجاح في تشغيل وتجنيد الجواسيس".
وفي اليوم الأول من مهمتها الأولى في الخارج، طُلب منها أن تذهب لرؤية رئيس المحطة، وهو ضابط يحظى باحترام كبير في الوكالة الأمريكية.
عندما دخلت مكتبه، استند إلى كرسيه واضعًا قدميه على المكتب الخشبي الضخم وسيجارًا غير مشتعل في فمه، ولم يقل لها أي شيء، فقط أخرج السيجار من فمه وأشار لها به لكي "تستدير".
دارت قليلاً، وهي في حيرة من أمرها، والتفتت وواجهته مرة أخرى بنظرة استفهام، قبل أن يرد الضابط بابتسامته، ويقول "أوه، ستفعلينها"، وأدركت حينها أنه كان يقيم كيف تبدو، وكان ذلك محطما لها.
بن لادن
وفقا لمقالة "فورين بوليسي"، مع تكثيف البحث عن زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن، قامت النساء اللاتي يتعقبنه بجمع المعلومات الاستخبارية بعناية.
وفي 6 أغسطس/آب 2001، كتبت باربرا سودي، محللة وكالة الاستخبارات المركزية، مذكرة بعنوان "بن لادن مصمم على مهاجمة الولايات المتحدة"، ولم تجتمع حكومة بوش حتى 4 سبتمبر/أيلول عام 2001 لمناقشة التهديد, وبعد أسبوع، حدث الهجوم الإرهابي.
بينما ذكر كتاب موندي أن الحزن والشعور بالذنب خيّم على النساء اللاتي حذرن حكومة الولايات المتحدة لسنوات من هجوم محتمل.
وقالت إحدى الضابطات السريات لموندي: "طوال عامين من حياتي، كنت أحاول أن أفعل الشيء الصحيح، ومات الناس، وشعرت أن ذلك كان خطأي، وقد أثر علينا كثيرًا حقًا".
ولحسن الحظ، كما توضح موندي، تغير الكثير منذ ذلك الحين، وتتمتع ضابطات وكالة الاستخبارات المركزية اليوم بوضع أفضل، لكنهن ما زلن يواجهن تمييزًا هادئًا وعوائق تحول دون تحقيق النجاح، كما هو الحال مع جميع النساء العاملات تقريبًا.
aXA6IDE4LjIxNi40Mi4xMjIg جزيرة ام اند امز